تأطير قصيدة النثر....ريما ال كلزلي
تأطير قصيدة النثر
نبدأ بعدة أسئلة:
أيعقل أن تكون قصيدة النثر نصاً هجيناً عابراً لا يملك روح الشعر ؟
ماهي مستويات الشعريّة في قصيدة النثر وأين تكمن جمالية التكوين في قوامها؟
كيف يمضي هذا النص بين الأكاليل بلا إكليل، وهو الآن يتربع على عرش القصيد؟
أخيراً من ساهم في صنعه ليتبلور بهذا الشكل، ومن يمتلك زمام إرساء الوصف لقصيدة النثر
بمحاور تجعلها نصّاً حراً..؟
تعود بدايات القصيدة النثرية إلى فرنسا، حيث ترجع إلى شاعر كتب كتاباً استخدم فيه المحاكاة والسخرية من الرومانتيكية وفق تقطيع جديد للنثر، هذا الكتاب ( غاسبار الليل) يعود للشاعر "ألويزيوس برتران "الذي تأثر به معظم شعراء النثر .
عرفت الأديبة الفرنسية سوزان برنار قصيدة النثر؛ بأنها القطعة النثرية الموجزة بما فيها، مضغوطة كقطعة بلور، إيحائية لا نهائية.
ومن رواد قصائد النثر الشاعر شارل بودلير حيث كتب مقطوعات نثرية في عام 1828، هذا بالإضافة إلى أعمال ألفونس رابيه الأدبية وكتابات رامبو وبريتون وغيرهم.
أما قصيدتنا العربية النثرية فقد تكوّنت منذ أكثر من خمسين عاماً، لايوجد تاريخ واضح لبداياتها ومهما تعددت مسمّياتها ، سواء كانت القصيدة النثرية أم الشعر المنثور أو القصيدة الحرة أو النثر المركّز...
تعرّف : على أنّها القطعة النثرية التي لا تلتزم بالوزن و بالقافية، حيث البساطة اللغوية أحد أهم مكوناتها التي تعتمدها في ألفاظها وتراكيبها، وتبتعد عن التكلف والمحسنات البديعية، كما يميزها الابتعاد عن أسلوب الخطاب وعن البهلوانية في البلاغة والصياغة.
والإيجاز هو سمة أصيلة فيها تماهياً مع روح العصر إذ لا تميل إلى التطويل كما كان سائدًا في القصيدة الكلاسيكية.
لو فرّقنا بين القصيدة النثرية والقصيدة الحرة لوجدنا أنّ النثرية تكتفي بمادتها وموضوعها، وأصلها شفويّ لا يتوفر فيها التقطيع، بينما القصيدة الحرة كتبت على الورق، وتلتزم النظم؛ لذا بات حريًّا بهذا الفنّ الأدبي قصيدة النثر - الذي يبدو أنّه يتصدّر قمة الفنون - أن يحظى بدراسة تخصّ تاريخ النشأة والأهمية وتنفرد بها، وتثبيت ملامحه..؟
وأعتقد بأن الجمال يتمثل لا بالشكل وإنما بالدهشة وهذا ما أبدع فيه النثر ، غير أنه تحول العرب مؤخرا في تأييد قصيدة النثر إلى فريقين؛ فريق راح يتهمها بأنّها ثقافة غربية انتشرت في العالم العربي، وفريق يعتبرها تضاهي القصيدة الشعرية وجاءت نتيجة للمتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
باعتبارها ثورة على الشعر الكلاسيكي ذو الأوزان الخليلية، استغنت بالايقاع الشعري عن مايكبلها ويحرر معانيها.
للوهلة الأولى يوحي الحديث عنها بأنها منطقة ملغومة قد تحمل الكثير من الذاتية، مهما ساهمت كظاهرة شعرية في تغيير مسيرة الأدب العربي بعد أن هجرت الثقافة العربية في أوائل القرن الماضي مألوف مداراتها وانخرطت في الحداثة الأدبية.
ولكن كل ظاهرة حديثة شعرية أو أدبية هي جزء من الكل الثقافي، والحداثة هي شعار القصيدة النثرية لأن النهضة العربية، آنذاك كانت تستلزم أدباً عربياً حديثاً مبتعداً عن الرؤى القومية السائدة والآراء السياسية.
كانت قصيدة النثر مركباً جميلاً عبر إلى شاطئ آخر من القصيدة العربية، ومن خلالها قرأنا للشعراء أدونيس ومحمد الماغوط وأنسي الحاج، وخليل الخوري وشوقي أبو شقرا، وحسين مردان وفاضل العزاوي وفوزي كريم ومحمد عفيفي مطر وسركون بولس ، وغيرهم وكتب هؤلاء الشعراء وفق الأسلوب النثري منذ العام1954-حتى1993، حسب بدايات مجلة "شعر "التي ظهرت تحديداً في دول دون غيرها من الدول التي تعتبر من أكثر البلدان العربية ارتواء من منابع الثقافة الأوروبية الحديثة والتي انتقلت تأثيراتها عبر مثقفيها وأدبائها إلى البلدان العربية الأخرى حاملة لواء التغيير والتجديد الثقافيين بعيداً عن خجل الحركات الثقافية التي قامت هنا وهناك في أرجاء بلاد العرب تدعو إلى التجديد في مضمون الشعر العربي دون المساس ببنيته من حيث الإيقاع الشعري.
وكان لجماعة مجلة شعر التي أسسها يوسف الخال في بيروت ولشعراء من تونس والعراق والمغرب وغيرهم الفضل في نشأتها واستمراريتها ، التزم يوسف الخال في نقده لظاهرة قصيدة النثر موقفاً متفقاً مع نازك الملائكة في أن النثر نثر وأن الشعر شعر، وأن الفارق بينهما الإيقاع الذي يجري في القصائد التي يتوخى أصحابها نظمها على الوزن التقليدي الذي نظم عليه العرب أشعارهم، والذي استبدله شعراء قصيدة النثر بوزن ذاتي مستحدث ينبع من عبقرياتهم ومواهبهم الفنية، والذي يكون على أشكال ثلاثة: الشعر المتحرر من القافية، الشعر الحر، وقصيدة النثر.
إلّا أننا برغم ذلك لم نرَ كتاباً يؤرخ لنا بدء قصيدة النثر في الوطن العربي ونشأتها .
بينما توضح لنا أن الشعراء العرب الذين كتبوا في هذا النمط بدايةً قد تأثروا بشعراء غربيين وبخاصة فولتير وبودلير ورامبو وسان جون بيرس وغيرهم، ونقلوا تجاربهم شكلاً ومضموناً..
فيما ظهرت بعض المقالات والدراسات الأدبية من مرموقين هنا أو هناك ولكنها لم تستوعب النظرة الشاملة لتجارب الآخرين.
وهنا في معرض الحديث مجدّداً عن الحداثة، في أكثر أشكالها الحداثية تمرداً على المنظومة الكلاسيكية في الشعر والأدب، منظومة قصيدة النثر كمجموع مفاهيم ترتبط بطريقة العيش والعلاقة بالوجود، لا بد من التأكيد على ضرورة الانطلاق من الكلاسيكية نحو الحداثة بشيء من التسلسل العقلاني كما يرى أدونيس الذي يعتبر أن الذين أسسوا الحداثة الغربية، كمثل رامبو وبودليير ومالارمية، كانوا كلاسيكيين، لم يخلقوا الحديث إلاّ بفضل ارتباطهم العضوي العميق بقديمهم الأوروبي.
ما تفتقده الحداثة عند المثقفين العرب - وهنا يكمن مأزق الحداثة - أنّها لم تتواصل مع موروثها / الماضي كي تبني منه عالم البنية والعمق، بينما يتحتم كسر الرابط البنيوي المتراكم لدى العربي المرتبط بتراثه فقط ، لينتقل إلى التراث الانساني الأكبر ككل.
وتظل قصيدة النثر هي الحرية التي أعتقت الشعر من اعتباره انفعالاً أو وصفاً أو حكمة متوجهة إلى أنه رؤيا في الانسان والوجود تستشف العالم وترسم أبعاده، مصورة الشعر كشراكة تراثية انسانية بين الشرق والغرب ، بعيداً عن تطرف و سذاجة البعض.
الكتابة عن هذا الموضوع تتطلب جهداً كبيراً - نأمل من النقاد الذين غضّوا النظر عن هذه القضية أن يولوها الاهتمام - وبالعودة إلى سؤالنا الأول ؛
مَن سيمتلك زمام المبادرة في البحث عن تاريخية قصيدة النثر ، وتوثيقها بكتب تُعنى بها ، أليست الأطر الراقية والمتاحف من يحفظ أصالة اللوحات الخالدة..فلماذا لا نؤطر هذه اللوحة الرائعة قصيدة النثر ونحتفي بقرب مئوية ولادتها؟!
التعليقات على الموضوع