الرَومانسيّة عند الشّاعر محمد الشمري في سداسيّة "عودُ البانِ" بقلم النّاقدة نافلة مرزوق العامر

الرَومانسيّة   عند الشّاعر محمد الشمري في سداسيّة عودُ البانِ بقلم النّاقدة نافلة مرزوق العامر


سداسيّة "عودُ البانِ"

وجدانيّة على بريق الحرف

المفرط هشاشة
تتلألأ
إطلالة ورصد للخصائص العاطفيّة
الرَومانسيّة Romantic characteristics
عند الشّاعر الفذّ
محمد الشمري في سداسيّة
"عودُ البانِ"
بقلم النّاقدة
نافلة مرزوق العامر
Stella Ra Nch
يا عُـودَ بـانٍ مـالَ قـدُّكِ مـالا
نحـوَ الـفـؤادِ تغَـنُّجـاً و دَلالا
يا لـيـتَ أنَّـكِ قـد علمتِ بـحـالـتي
أَنَّ انـثِنـاءَكِ مـزَّقَ الأوصــالا
لا تـرتـوي العـينـانِ مـنكِ تـطَلُّعـاً
أو يـرتـوي منـكَ الـفـؤادُ وِصـالا
والشَّـعرُ لـيـلٌ و المُـحيَّـا نــورُهُ
كـالبَـدرِ قــد زانَ الــظَّلامَ جـمـالا
أينَ اخـتفَـتْ غـابتْ وعـنِّي طَـيفُـها
مــازالَ يسـكُنُ خــاطـري مــازالا
الحُسْـنُ يفـتِـكُ بالـفَتـى و كـأنَّـمـا
للـعـاشـقـيـنَ يُـقَـصِّـرُ الآجـــالا
شاعر فذّ يستلّ ريشته الشّعرية ويسقيها من محبرته السّحرية حبر السّطر الفاخر والحرف الباهر لترسم في لوحة الخيال أبهى صور العشق في أبيات مرهفة وجدانيّة.إن كان وجدان المرء كما قيل هو نفسه وقواه الباطنيّة فلا شكّ بأنّ قصيدتنا المقرؤة هي وجدانيّة، وإن كان الحبّ في أقوى وأشقى درجاته هو الوجد فقصيدتنا مشجبه ومرتع زفرته. بلاميّة مطلقة (وما عبثا انتقاعا بل لسحر في مغناها فيها لا وفيها لالا) ونزعة وجدانيّة رومانسيّة مالت بالشّاعر نحو مخيّلته صاغ شاعرنا من وجده وشوقه قصيد الجمال وقوده صورا من حنين وانتظار وإيقاعه حرف رنّان مطرب ينساب بتلقائيّة لا تنضب مع التّكرار.إذا فشاعرنا يشاركنا في قصيده عواطفه وأحاسيسه ويسكب ما في سريرته من شعور بالشّوق للغائبة عنه،ومن هنا في ثورة انفعالاته وعواطفه المتلاطمة تتضمّخ قصيدته بعبق الرّومانسيّة والعاطفة وتصطبغ بصبغة الشّعر الوجداني فتتجلّى أمارات هذا النّوع من الإبداع الشّعري في كل بيت وبيت منها.
نعم تسطع النّزعة الوجدانيّة من بداية القصيدة فيستهلّها "بمحاكاة الطّبيعة imitating nature حيث شاعرنا يشبّه الغائبة ب"عود البان"شأن شعراء العرب في وصف المعشوقة يحضرني هنا مطلع قصيدة ابن زهير الأندلسي
"عود بان من حيث استوى"
لقد استحسن شعراؤنا من جماليّات المرأة قدّها الممشوق وخصرها النّحيل فتكون عندهم في صورتها المثلى ممتشقة نحيفة وعابقة كعود البان .في ذلك يبتدئ شاعرنا قصيدته قائلا:
يا عُـودَ بـانٍ مـالَ قـدُّكِ مـالا
نحـوَ الـفـؤادِ تغَـنُّجـاً و دَلالا
وجدانيّ شعره شاعرنا فهو ممتلئ "بالطّرب" فالبيت أعلاه موشّح بنغمات يميل منها القلب طربا ويثمل الحسّ وتتعالى دندنته.كيف مالت اللّامّ باللّسان نخو خفّة اللّفظ واللّحن برشاقة لا تقلّ عن سحر أندلسيّ أو نواسيّ في سكر.
مستمرّا في رومانسيّته وعلى وتر "الطٍرب" يحلّق بنبضنا الشّاعر المرهف ويقول:
يا لـيـتَ أنَّـكِ قـد علمتِ بـحـالـتي
أَنَّ انـثِنـاءَكِ مـزَّقَ الأوصــالا
صدر بموّال الرّجاء ينثال وعجز بنون الإنثناء يمزّق الشّرايين كيف لا وقد طغت فيه رنّة مقاطع النّون(إن نا ن ثِ نا ء كا) تتقطع نغمات مسكرة مطربة والأروع ها هنا ما نلمسه من صراحة الفضفضة وصدق إظهار المشاعر عند شاعرنا وهو ما يعزّز من النّزعة الرومانسبٍة للقصيد فشاعرنا غير طامح بغير الصّدق وليس مداهنا أو مساوما في إبراز ما في ذاته لا ولا يصبو لأيّ نوع من أنواع التّشجيع أو العطاء هو يقول موقفه ويمضي تماما كغيمة صادقة ترمي غيثها وتروح، فها هو يقول :
لا تـرتـوي العـينـانِ مـنكِ تـطَلُّعـاً
أو يـرتـوي منـكَ الـفـؤادُ وِصـالا
هو ظمئ لعيون الغائب وإن كان لا يرتوي منها حتى لو حضرت ومن نافلة القول هنا أنّ نقول بأنّ استعارة العيون أتت لتغطّي مفهوم الشّعر إجمالا فالعيون ترمز لقريحة الشّاعر وطاقته وهل من شاعر يكتفي بأفق عكائه لا بل فالشّاعر الحقّ يصبو دائما للأفضل والأعلى وينتقل من قمة إلى ما فوقها طامحا أبدا للكمال وإن كان الجمال في اللّاكمال وهو ما عند الرّومانسيّين الجمال الفكريintellectual beauty..مبالغة في الوصف تزيّن النّص بجماليّة الخيال فنتصور الخيال واقع قريب والواقع ضرب من خيال .هذا هو الشٍعر الوجداني الذي يخدّر الحواس لتستسيغ المحال في الخيال كيف لا والشٍعر أصلا ضرب من ضروب الخيالimagination فها هي تتأجّج المبالغة في وصف المحبوب فيقول:
والشَّـعرُ لـيـلٌ و المُـحيَّـا نــورُهُ
كـالبَـدرِ قــد زانَ الــظَّلامَ جـمـالا
يا لروعة الوصف صورة في صورة تصف صورة ثالثة
آكتظاظ جماليّ في التّصوير الفنّي
بلاغة في السّبك وفصاحة في البيان وعبقريّة في التّصوير.
أنظروا كيف جاء:
الشّعر بلونه الأسود هو اللُيل الدّامس
المحيّا أي الوجه الصبّح هو نور اللّيل
والصّورة الثّانية هي
البدر في السّماء يزيّن الظّلام ويزيده بهاء وهي صورة تصف الأولى وهاتان الصّورتان جاءتا لتصفا رسم المعشوقة وأمّا من يقرض الشّعر أطلالها فهي القصيد الذي يزيّن الحياة.يا لطبقات الجمال كيف تجتمع وتتفرّق كمروحة أنغام في سيمفونيّة الحياة.
رأينا فيما سبق من أبيات وجدانيّة كيف كانت الطّبيعة فيها متجلّية بعناصرها والنّبرة الغنائيّة واضحة راقصة تشنّف الآذان والمشاعر متدفّقة تفضح ما في الوجدان وها هو شاعرناالمحًطّم شوقا يبثّ وجعه ومقاساته ويتساءل:
أينَ اخـتفَـتْ غـابتْ وعـنِّي طَـيفُـها
مــازالَ يسـكُنُ خــاطـري مــازالا
الصّدق واضح جليّ في وصف خلجات النّفس وخبايا السّريرة ،يقول شاعرنا أنّه لطيفها الغائب خاطره ما زال المسكن والمأوى فغياب المحبوب لا ينفي حضوره في الخاطر وأمّا الخاطر فهو من الخواطر والأفكار التي لا تغيب عن الوعي رمشة عين وتصدر من القلب وتسكن الفكر وكم يذكّرني بقول الحمداني:"نعم أنا مشتاق وعندي لوعة.."لا بل يضيف ملحا للجرح ويقول:
الحُسْـنُ يفـتِـكُ بالـفَتـى و كـأنَّـمـا
للـعـاشـقـيـنَ يُـقَـصِّـرُ الآجـــالا
يعبَر عن خلجات النّبض بصراحة لا تلميح.. وصدق من قال "إنّ المحبّة الصّادقة لشخص تهبك شجاعةوجرأة" وأيّ جرأة تعلو على الشّعر المعبّر الصّادق!! والعاشق المعترف فخرا بحنينه اللّاذع الملتذّ بعذابه هذه هي المازوخيّة في أسطع تجلّياتها يحضرني هنا قول المتنبّي:
لقد حازني وجد بمن حازه بعد
فيا ليتني بعد ويا ليته وجد
يا لجبروت المقولة!! ويا لبطش خلاصة شاعرنا حين قال أنّ الحبّ يفتك بالفتى وقدر العاشقين فيه قصر أعمار!!
نعم وجدانيّ فالوجد تعريفا هو " ما يرد على الجنان دون تكلّف "كالجمر يلمع ويخمد ..."وأيّ نار أذكى من جمال يحتلّ القلب ويهلكه ويترك الولهان له في قبول!
سادتي إنّ شاعرنا شهيد الحسن بإرادته فلا الحبّ للآجال مقصّر لا ولا الحسن ملاحقه بل هو الشّاعر شهيد وجده يلاحق الحسن في مخيّلته ولا يتركه حتّى يصرعه

نافلة مرزوق العامر

ليست هناك تعليقات