أ.د. لطفي منصور بَوْحَةٌ هائِمَة: نَثْرِيَّة قراءة وغوص في بحر ألحانها ومعانيها المدهشة بقلم النّاقدة نافلة مرزوق العامر

أ.د. لطفي منصور بَوْحَةٌ هائِمَة: نَثْرِيَّة قراءة وغوص  في بحر ألحانها ومعانيها المدهشة بقلم النّاقدة  نافلة مرزوق العامر


أ.د. لطفي منصور بَوْحَةٌ هائِمَة: نَثْرِيَّة

أفلاطونيّة القلم
وشاعريّة الحلم
في فوحة من جواهر الكلم
بما أسميته
النّثر الأفلاطوني
Platonic Verse
قراءة وغوص
في بحر ألحانها ومعانيها
المدهشة
بقلم النّاقدة
نافلة مرزوق العامر
من برج فكره الأفلاطونيّ العاجيّ يشرق علينا شيخ الحركة التّنويريّة ورائدها في هذا القرن وسابقه وبلا منازع البروفيسور لطفي منصور في بوحة فلسفيّة أدبيّة راقية حفرت بحروف من درّي الكلام على
لوحة من فاخر التّصوير والبيان. رسم البروفيسور منصور الباحث المهيب الأديب الأريب والمفكّر الفذّ نثريّة بديعة بهيّة فيها حكمة عصرتها تجارب الكاتب لاغنى عنها للإنسان حكمة تحذّر من الوقوع في الهوى الفتّان والتزام الأقلام ببصيرة الفنّان.تتبلور فيها الحكمة في خلاصة تقتضي بأنّ الحبّ الصّادق هو ما يعلّمنا وما يرقّينا من محدوديّةالجسد إلى مراقي الرّوح فهو يسمو بنا إلى أفق التّأمّل الرّوحي والجمال إنّه حبّ الحكمة Love of Wisdom
وكم يتّفق ،كما سنرى لاحقا ،المعلّمان هنا وهما المعلم منصور والمعلّم الفيلسوف الإغريقي أفلاطون
Plato
في هذا الفكر وهذه الفلسفة وما الفلسفة سوى عشق للحكمة كما ويحضرني هنا مفكّرنا العربيّ ابن رشد الذي دعا إلى النّظر إلى ألأشياء بعين العقل والمنطق وسنرجع إليه لاحقا في هذه القراءة. إذا فالنّثر الشّعري هنا جاء في
مونولوج يتخلّله حوار قصير مع "ذات الخدر" هذا كما لمسته في حديث شاعرنا ناثر الجمال فهو يتحدّث مع نفسه والنّفس أمّارة!
يتدرّج في مونولجه من رهافة وضعف عاطفي، يوقدان فينا رحمة وتعاطفا، من غزل رقيق ووصف دقيق لخبايا نزعاته وأمانيه إلى رشفة فلسفيّة براغماتيّة فيها ميلة بل إرشاد نحو التّعقل وضبط النفس ولجم الشّهوات ليشعل فينا من جديد مشاعر التّقدير لجذوة فكره التي على حرارتها تنضج النّفس ويتنوّرالعقل كيف لا وكلّنا يعلم بأنّ العاطفة وهن والعقل مرساة الأمان ، نعم إنّ نثريّتنا تنثر شعلات "الحبّ الحقيقي" وتعزو الحبّ لترجمة فيها من الرّقي والسّمو ما يجعل منه مفهوما عذريّا ينبذ قيود الشهوة الجسديّة ويحرّر معناه ويطلقه إلى سماوات الفضيلة الحكمة الخير والنّقاء
فهو يستهل نصّه بأمرٍ
ويقول "ارفق"!أمر نعم هو لكنّه يدعو للرّفق تناقض فيه تلاقي في خدمة المعنى العامّ وهو ما يسمّىoxymoronمعنوي حسب اعتقادي. تنضح نثريّتنا بالرّهافة المطلقة التي تهب النّص شاعرية مثملة وشاعرنا خبير في انتقاء أبهى وأرقّ المفردات الكامنة في بحر اللّغة الزّاخر
إنّه العالم اللّغوي والمتخصص النّحوي والشّاعر المطرب معا يقول:
ارفق بِذاتِ الخِدْرِ إنْ مَرَرْتَ بِخِبائِها
وَصَلِّ عَلَى نَبِيِّكَ إنْ سَفَرَتْ بِشَمْسِها
إذا فهي ״ذات خدر״ من خلف ستار وغامضة.
صورة بديعة فيها طلب وتشبيه رائعان
ف"ذات الخدر״ هي المحتجبة لكنّها شمس إن أسفرت بل إنّ إسفارها خطير يهزّ القلب ويجعلنا نصلّي على الرّسول حال نلمح سحرها
ثم يستطرد في وصف "ذات الخدر" وما تعصف به من عواطف في نفس الرّائي ويقول:
وَحَيِّ الأَحِبَّةَ وَقُلْ: سُبْحانَ اللَّهِ مُصَوِّرِها
خَوْدٌ إذا ما سَرَتْ في الدُّجَى مُخْتالَةً
تَحَيَّرَتِ النُجومُ في مساراتِها
وَإنْ نَظَرَتْ إلَى الْبَدْرِ في مَطْلَعِهِ
فهي إن اختالت حارت النّجوم في سبلها بمعنى خجلت وارتبكت كيف تهرب لتخبّئ نورها لأنه لا يضاهي نور "ذات الخدر" كيف لا ،ومحيّاها بدر طالع.
ويستمرّ شاعرنا في وصف الشّكل ويصبغه بصبغة وطنيّة عربيّة فيقول:
رَأيْتَ الْبَدْرَيْنِ مَعًا في طَلَّتِها
عِراقِيَّةُ الْعَيْنَيْنِ ، شَآمِيَّةُ الثَّغْرِ
مَغْرِبٍيَّةُ الصَّدْرِ، يَتَفَجَّرُ النُّورُ مِنْ لَبّاتِها
يَمَنِيَّةُ الْعُرْفِ، حَضْرَمِيَّةُ الْجيدِ
وصف يعزو لها صفات مألوفة عند العرب فجمال العيون عراقي والثّغر شامي إلخ..ثمّ يتحفنا بوصف عن جريان الماء في شرباتها وهو مدهش بليغ فيه مبالغة :
تَرَى الماءَ يَجْري فِضَّةً في شَرْباتِها
الله كم فذّ هذا التّصوير من جهة هو سهل ممتنع يفهمه القارئ دون جهد ذهني ومن أخرى بليغ لا يأتيه مبدع عادي فشاعرنا يصف شفافيّة في الشّربات تجعلنا نرى الماء يجري فيها كالفضّة وما أقرب لون الفضّة ممّا لا لون له!
ثمّ ينتقل بنا بليونة إلى أفق الحوار ويسألها:
قُلْتُ لَها مَنْ أنْتِ يا مهاةَ الْبَراري؟
مرّة أخرى يدهشنا الشّاعر بعذوبة الكلام وسحر المجاز وموسيقا الحروف فهو ما انتقى تشبيه ״مهاة البراري"عبثا بل لأنّها مستساغة في الأذن منسجمة مع الحسّ
منسابة في اللّفظ
وهي وحشيّة حرّة مطاردة
تماما كمعنى القصيد الهارب في براري الفكر والخيال.
من أنت ؟ يسألها لينبّهنا إلى ما قصد بها في نثريّته.سؤال مقصود لهدف هامّ يخدم معنى هامّ في النّص.من هي!ما هويّتها!
أجابت:
قالَتْ: أنا مَنْ رَكَّعَ الرِّجالَ في مَتاهاتِها
كَمْ قَتيلٍ بِلا دَمٍ صَرَعَتْهُ سِهامي فَابْتَعِدْ
أَعَزَّكَ اللَّهُ! حَذارِ حَذارِ ؛ وَيْلَكَ مِنْ فَتْكاتِها!
هي إذا إمرأة فاتنة جميلة تفتك بالرّجال وبلا دم! تفتك بقلوبهم وتصرعهم في رغباتهم!
أوليست تذكّرنا بأمرأة نزار قبّاني حين يقول:
"من حاول مسّ ضفائرها يا ولدي مفقود!!"
إذا عروس الشّعر ملهمة الشّاعر museهي الجمال والمعرفة المحجوبان ومعنى الشّاعر المختبئ خلف تلّال البحث والمعرفة بمعنى آخر هو العبرة والدّرس .
خشية من الهلاك من سهام العيون يقول شاعرنا:
فغادَرْتُ الْكُناسَ كَسيرَ القَلْبِ هائمًا
عَلَى وَجْهِي لا أُبْصِرُ مِنَ الأرْضِ طُرُقاتِها
يرتأي شاعرنا صهر المعنى بالشّكل فالسين والكاف لحالة الإنكسار فيهما توفيق لفظي ومعنوي وهو ما يسمّى بonomatopoeia
لقد هرب كالشّريد يهيم على الأرض يبصر ولا يرى شارد الذّهن تتسارع دقّات قلبه :
وخَفَقانُ قَلْبي يُرَدِّدُ في مَسْمَعٍ
ويرنّ في مسامعها:
اُنْجُ يا سَعْدُ فَقَدْ سَقَطَ سَعيدْ. هَوَى
صَريعًا في عِشْقِ غانِيَةٍ وَمَثيلاتِها
وَدَعِ الْهَوَى فَالْحُبُّ صَعْبٌ مَحْمَلُهُ
وَالْزَمْ كتابَكَ وَالْقَلَمَ فَفيهِما السَّلْوَى،
وَزَهْوَةُ الدُّنْيا وَكُلُّ حَسَناتِها
يهرب لينجو من براثن الهوى وينفذ من حمله الثّقيل قبل أن يهلك كسعيد في المثل المعروف ،يهرب من الحلم إلى القلم ومن ثقل رغبات الجسد والحواسّ إلى حرّية الفكر وأثيريّة الإبداع.
وكم يحضرني هنا قول ابن رشد:
"الحسن ما حسّنه العقل والقبيح ما قبّحه العقل"
نعم فشاعرنا لا يلغي الحقّ في الرّغبة والعشق لكنّه يجمّلهما في تأطيرهما في حبّ عذري يعذر الرّوح من ثقل الجسد ويزجّ بالأطراف في ركن القرب من العفاف والفضيلة.هو نداء إلى أخد الجانب الحسن من كلّ شيء فالمرأة قد تكون غرضا حسّيّا جسديّا ملموسا وقد تكون حرما جماليّا عاطفيا مقدّسا إما نزعة الشّاعر فهي للأخير.هذا الفكر والتّأطير يضيفان إلى رصيد شاعرنا الفكري والأدبي فهو يرقى بالمرأة من اعتبارها غرض إلى رؤيتها أيقونة ورمز للجمال ويا له من فكر تنويري تقدّمي كم نحن في عوز إليه!
شاعرنا العذري يرى من منظوره بأنّ الشّعر والإبداع هم لذّة ذهنيّة ترتوي من قلم يرسم الجمال على سطور الخلود إذا فهو فيلسوف ولم يخطئ برأيي أفلاطون في كتاب “الجمهوريّة”حين قال أن الفلاسفة هم أقدر من يقود الشّعب .وأمّا الكتاب الذي يناشدنا بروفيسورنا الشّاعر بأن نلزمه فهو كتاب الأدب والشّعر.
الشّعر ما الشّعر (بكلماته نستلهم معنى الشّعر )إنه بوح القلم السّاهر وحضن الدّمع الدّافئ سلوى الرّوح وزهوة العبق المتناثر من زهر الألم والفكر نعم الفكر لأنه جسر الحسنات إلى محيط الخلود إنّه الحبً في أرقى أشكاله وتحضّره فهو لا يحتاج لدافع بل هو الدّافع ذاته الذي يجعلنا نهوى الجمال لذاته وليس لنزوة عابرة إنّه قلم يقطر زهوة ومعنى الحياة.
في زفرة أفلاطونيّة تقدّس النّظرة العقلانيّة وتدعو إلى الخير والجمال زفرة رقيقة عائمة على سطح الحسّ الثّمل باحت أنفاس شاعرنا النّاثر وصاغت جواهر الكلام.
نعم هو شاعر من وضع هذا العنوان
نثره من الشّعر
كالرّوح من الجسد
فالشّعر بلا نشوة كالصّباح بلا قهوة غائب سحره باهت إشراقه
محايد طعمه
كذلك الشّعر مهما زخر بعناصره الشّكليّة تغيب روحه ويتعطّل تأثيره إن عدم قدرته على هزّ العقول وإيقاظ الفكر.
وهذا ما لمسناه عند الوقوف على سطور بروفيسور منصور العالم العلّامة الجليل في نثر من شعر وزنه رهافة روح وقافيته لحن أغنية تتنهّد بهوائيّة هاء هائمة زفراتها.
وكم من مساحات في جعبة القصيد لم يصلها ضوء القراءة!

بقلم النّاقدة نافلة مرزوق العامر

ليست هناك تعليقات