الأثر النّفسي والغلوّ في الوصف قراءة نقدية في قصيدة .. ( الحصاد المرّ ) للشّاعر الفذّ عماد احمد بقلم نافلة المرزوق
الأثر النّفسي والغلوّ في الوصف
وملكة صياغة الحرف في قصيدة
.. ( الحصاد المرّ )
المحترف
الشّاعر الفذّ
عماد احمد
جهبذة الصّياغة
من منظور علم المعاني
وفنّ انتقاء الكلام
Semantics&Word choice
بقلم النّاقدة
نافلة مرزوق العامر
"Poetry ia an echo asking a shadow to dance"
C.Sandburg
"ألشّعر صدى يدعو طيفا إلى الرّقص"
يقابله عندنا "إنّ أحسن الشّعر ما لم يحجبه عن القلب شيء" أي توأم الصّدى العاكس دواخل الشّاعر وطيفه المنعكس بحقيقته في رونق الحرف،ليخرج من القلب الكاتب ويدخل في القلب المتلقّي.
إن كانت البلاغة قيمة إبداعيّة قائمة بذاتها فهي برأي فلاسفة الأخلاقيّات أداة للتّعبيرعن الحقيقة وعلى ذلك فالشّعر البليغ يجب أن يخدم الحكمة والشّاعر البليغ يجب أن ينفث زفرته بحكمة تقول حقيقة إحساسه وفكره وتصنع درسا وعبرة في ذهن المتلقّي ترقى به إلى أفق فكريّ يثري معرفته ويغني تجربته في رحلة نضوجه واستيعابه لمعنى الحياة.
في تصوير ملتهب منهمر كطوفان بقوة وبأس لا يلين لبوتقة وجود تعيس ينفث دخان بؤس يتصاعد من دوّامة قهر وشقأء ولد حرف قيصرنا الذي أبدع وتألّق فيه فهو مقتنص محترف للكلمات، قد تنكمش ذخيرة الكلم عند البشر لكنّه ببراعة مدهشة يلتقط اللّفظ المناسب المشحون بأكبر أعمق وأوسع دلالة لما يقصده من معنى ثم يلحق هذا الحرف بوصل لفظي معنوي لا يقلّ سحرا وفكرا فيرتاح المعنى العامّ على خميلة هذا الحرف والوصل الموجز بانسجام يلبسه بريقا شعريا ونغمة يختالان في خيال القارئ قصيدا من نور كلّ يستوعبه في ذهنه على قدر طاقته.
نعم حرف كعين النّسر تراقب وتنقضّ وتقتنص بأقصر وأسرع ما يكون من وقت وجهد هذه هي البلاغة وها هنا يستقرّ رونق المعاني وعلم المعاني،وأكثر فقيصرنا الفذّ في هذه المعلّقة وبهذا الصّوغ يدخل القارئ إلى جوّ ومزاج ولحن يخدمون هدفه الفكري والشّعري بجهبذة فائقة!
وبإيجاز يؤطّر معادلة القصيدة الشّعريّة حتّى نستطيع القول بأنّ شاعرنا قد نقل ببلاغة نادرة وروح قلقة تغلي حالة الوطن المريض فيتجلّى الأثر النّفسي لبطل القصيد وهو برأيي الشّاعر المواطن لينعكس سبائك كلاميّة معجزة من حرف ثقيل الجمال عميق التّصوير رهيب الصّياغة بغلوّ في الوصف وغليان في النّفْس والنّفَس.
خوضا في القصيد نقول أنّه وفي أسلوب عتابي وسبك ناريُ يتلاءمان وإحساس الشّاعر يبوح بهذه المعلقة النّفيسة مخاطبا نفسه ووطنه الواهي المتهاوي من ضربات الزّمن .شاعرنا كما سنرى هو الوطن ويكتب للوطن في آن واحد وهو القصيد وكاتبه وهو المشتكي والطّبيب فالمعلقة برأيي جاءت مناجاة في خطاب ولوم في ترياق.يقول شاعرنا الأريب:
الصّورة ناريّة!
تنسجم وشحنة الغيظ في نفس الشّاعر
نفْثٌ لوَجدِكَ أَم قَذْفُ البَراكينِ
وَذا مِدادُكَ أَم نَزْفُ الشَرايينِ
تمشِي ومِن حوْلِكَ الطوفانُ مُعتَمِلٌ
أَلْقى بكَ العَصفُ في جوفِ الطواحينِ
يشْتَدُّ فيكَ أوارُ الشوقِ .. تحضنُهُ
فتَسْتحيلُ رَماداً في الميادينِ
نوازلُ الدَهرِ ماتَنْفَكُّ تدفعُها
بِواهِيِ الكَفِّ ألْويها فتَلوينِي
قال ابن الأثير "مدار البلاغة كلّها على استدراج الخصم إلى الإذعان والتّسليم..." وأن تبلغ غرض المخاطب بها.الخصم هنا بمعنى من يُراد إقناعه وهم " الشّاعر ذاته" "القارئ" و"الوطن" الذي يريد الشّاعر أن يحييه ويبعث فيه روح النّهوض والحياة من جديد.
إذا فالشّاعر أصبح وطنا والوطن أصبح شخصا وكلاهما في وحل غارقين ،وحل ووشل ونهر وبراكين وضفاف حرف تستقبل وطنا بالإرادة والإيمان يصل إلى برّ الأمان( كما ذكر في البيت الأخيرمن القصيد) أمّا البيت الأوّل فهو وجد الشّاعر المتجسّد حرفا بركانيّا فها هو الشّاعر يحدّث نفسه يخاطبها سائلا إياها هل ما يكتبه هو عشق منفوث أم زفرة بركان وهل مداد هذا الحرف هو حبر عاديّ أم هو دم شريان مراق من جرح المعاناة والعذاب.
مرّة أخرى تنحني العقول أمام هذا الوصف وبلاغة التّشبيه وأمام هذه البراعة في انتقاء المفردات حتّى أنّ هذا التّدجيج الكلاميّ المدهش في استعمال "المصدر "و"الإسم" بفصاحة وإيجاز جاء موفّقا ملائما لوصف نفسيّة الشّاعر المتمرّدة المنكرة لحالة ومآل الوطن فالمصدر تعريفا هو أصل المشتقّات وحامل المعنى في كلّ حالاته وحاضن لمساحات المقاصد فعلا وتجريدا.نعم فإنّ البلاغة تتجلّى في حرف قويّ مشحون بطاقة الكلام وعمق الدّلالات لبلوغ المرام دون هذر واجترار لأنّ شاعرنا قد أوتي جوامع الكلم فبرز تكثيف المعاني بوضوح.لا ننسى إيقاع الحرف العسكريّ ونبرته القويّة الآمرة وهو من الإنسجام بواقع الحال ووقع المعاني.إذا فهو في البيت الأوّل وجد في الرّوح وبركان ومداد نازف وهو في الثّاني أكثر فهو طوفان وعصف القيا بالوطن في الطواحين نعم إنّ طواحين الزّمن تتلقّى من دفعه الطّوفان والعصف في رحاها لتطحنه وتسومه مذاقات الوجع والعذاب.يبالغ الشّاعر في وصفه لحالة الوطن علاقة شعوريّة طرديّة فكلّما ازدادت المبالغة كان ذلك مؤشّرا لاشتداد أزمة الشّاعر ومعاناته النّفسيّة وحزنه لحال وطنه وها هو في الثّالث يقول مشخصنا الوطن أن عطش الحاضر لمجد الماضي والبحث في الوهم والسّراب قد ردّاه إلى حريق ردّه رمادا ويا لهول الصّورة والتّصوير فالعطش هنا أوار وهو في أشدّ درجاته وهو يوجد الجفاف والاحتراق وما بعد الإحتراق سوى الرّماد
تتجلّى روعة انتقاء الكلمات وابعاد علاقة التّصوير مع المعاني هنا بروعة وإعجاز فكما قلنا درجات العطش والشّوق عالية وجوّ اليأس طاغ وحتميّة الإحتراق لا تحتمل الشّك ولكنّ الرّماد غذاء الشّعراء وعروس عنقائهم!
يلمّح الشّاعر في ذروة اليأس إلى انبعاث روحاني
وهذا ما يثبته البيت الأخير كما سنرى.تكتمل في البيت الرّابع مقدّمة القصيد ليعلن الشّاعرصراع متواصل بينه وبين نوائب الدّهر ومرّة أخرى المبالغة فالنّوائب أصعب الكوارث وأقساها تضرب الجسد والرّوح والدّهر مستهدف متربص له والنّزال صراع في الأيدي ليّ واللّي موجع مؤلم يطرح المصاب عن وعيه غائب! وما أدراك ما غياب الشّاعر!! ما غياب الوطن!!
بعد هذا التّقديم ينتقل الشاعر إلى التّأريخ وذكر التّفاصيل ليكون للتّنفيس صدى أكثر تأثيرا وأكثر إقناعا، يحضرني هنا الفكر الأفلاطوني في اعتقاده بأنّ"الشّعر أقرب إلى الحقيقة المهمّة من التّاريخ"كيف لا وهو بوحة من نفس الشّاعر الحيّة الشّاعرة التي تعيش اللّحظة بكل تفاصيلها فتنفث فعلها فيها قصيدا ينوب عن الشّاعر في حضوره وفي غيابه ، يستلّ شاعرنا لسان بلاغته لسان كالصّارم بالقول الصّارم ،وبأسلوب إقناعي حكيم يستدرج الشّاعر المخاطبين فيقول:
الصّورة مائيّة!!
تندمج والتّوجه اللّين للمخاطب بغية إقناعه بالإقدام على تغيير الأحوال:
قبلَ الثلاثين أَرخَيْتَ الزمامَ لها
فاشْدُدْ زمامَكَ من بعدِ الثلاثينِ
كأَنَّكَ النهرُ فيضُ الماءِ غادرَهُ
فَباتَ يَركُسُ بينَ الوَشْلِ والطينِ
يَمْتارُ فيكَ حنينٌ لا انتهاءَ لهُ
يغلي كَما البُنِّ في لُبِّ الفناجينِ
تقْتاتُ فيكَ بناتُ الدهرِ لاغِبَةً
والنَزفُ نزفُكَ في كلِّ الأَحايينِ
بعضٌ من السُمِّ تِرياقٌ لجائحةٍ
فَطَبِّبِ الجرحَ من سُمِّ الثَعابينِ
أُسْطورةُ العيشِ في أَمنٍ وفي دِعَةٍ
بعضٌ من الوَهمِ في خلْدِ المجانينِ
يصول ويجول يغوص ويحلّق يوبّخ ويبرّر كلّ هذا في فصاحة وبيان يجعلوننا نستحضر روح النّابغة والمتنبّي وصرخات عروة وعنترة وكأنّنا والله ما فارقَنا لسانهم وما هجرتنا قوافيهم فأحمد النّحرير بسحر بيانه ولؤلؤ ألفاظه وحنكة سبكه قد وصل ذروة الشّعر وغزا أعماق جماله حتّى ملك بملكة إبداعه التّاج بدرر حرفه ولامع برهانه .يشرح في الأبيات أعلاه شاعرنا كيف أرخى الزّمام للنوائب تفعل ما تشاء به وهو في الثّلاثين ويحثّ حسب ما فهمته ممّا هو وراء الكلمات على استرجاع الإرادة وشدّ الزّمام وهو هدف نبيل لا بدّ منه لاستمرار الحياة الكريمة،يهمّنا المعنى ويهمّني الإلتفات إلى جهبذة انتقاء الصّورة والمفردة "النّهر يركس" و"الماء يغادر"والحنين يغلي في "لب "الفنجان
و"بنات الدّهر تقتات" كلّها تعابير من لبّ اللّغة الفصحى الصّافية وآبار البلاغة الفاخرة وكم أعجبتني حكمته إذ قال
إنّ من السّم ترياق وللجرح من سمّ الثّعابين تطبيب..ما هذه الرّوعة ! وهل الشّعر إلّا إيقاد فكر وإدهاش !!
نعم إدهاش فشاعرنا يطرح حكمة بليغة بقوله أعلاه بأنّ العيش في دعة هو أسطورة بل وهم بل وهم مجانين!! ويتقابل هنا بفكر شكسبير على لسان الملك لير بما معناه أنّنا خلقنا لنتعذب".......when wd are born we cry"
خمسون ما ملكت زماما والآن خمسون تسترجع ذاكرتها لنقرأ:
الصّورة أثيريّة نوستلجيّة تنصهر في معنى الحنين والدعوة إلى اللّجوء إلى العقل والتّعقل ونبذ التّناكف:
يادجلةَ الخيرِ من خمسين أحفظُها
حتى سَئِمتُ صداها في الدواوينِ
كانتْ تموجُ بها الأطيارُ صادحةً
كانتْ تضوعُ بأنواعِ الرياحينِ
أمُّ البساتينِ.. أمُّ الخيرِ.. معذِرَةً
ماعادَ للنخْلِ ظِلٌّ في البساتينِ
ما كَفْكَفَ النهرُ دَمعاً في محاجِرِنا
ولا تَحَسَّسَ جَوْعاً للمساكينِ
مابُدِّلَ الحالُ إلّا من تناكُفِنا
إنَّ التناكُفَ قَتْلٌ للمَوازينِ
ها أنتَ.. في لجَّةِ التيّارِ مُنْشَتِلٌ
فهل تطيقُ عِناداً للقوانينِ
هذا أَديمُكَ موشومٌ بطعنتِهِ
مُسْتَنْزَفُ الروحِ من حَزِّ السَكاكينِ
في الأبيات أعلاه يخبرنا الشّاعر بما كان من خير وضوع أمان وهدأة بال وحال ويخبرنا أيضا بتبدّل الأحوال وانقلاب الموازين في الوطن حتى استنزاف الرّوح من سكاكين الأحداث..شاعرنا واقعيّ يسكب مواجعه وأفكاره مما يجري في وطنه وتأثيره في نفسه ويشرح وقائع تاريخيّة ويبدي فيها رأيه وخلاصة القول أنّه يعتقد بأنّ التّناكف هو رأس الثّعبان وما جاء به هو وطن تعبان ومواطن أنهكه تضعضع الأركان في الأوطان.
مرّة أخرى تبهرني متانة السّبك وجزالته وبلاغته وفصاحته فالكلام عقد من بريق معان وتمايل نغم حبّاتهم مشكوكة في حبل من حبر أسطوري خوابيه محتكرة ليراعات الأفذاذ وأرباب الإبداع المميّز.
يعلمنا شاعرنا في خطابه ومناجاته عما يختلج في نفسه فيقول:
ناجَيْتُ فيكَ شموخَ الأَمسِ ياوطَني
هل فيكَ صَمتُ قبورٍ ماتناجيني
هو ضرب من توبيخ محبّ فما وصفه للوطن الذي يناجي شموخه الغابر إلٌا لوم عاشق هو برهة وعابر..الشّاعر يتألّم لأن الوطن لا يجاوبه ويصف صمته بصمت القبور وهو تصوير قوي يلائم حدّة الخذلان في نفسه.
يتابع في كلامه المنتقى بحذر وبراعة مدهشين فيقول:
صورة جفاف تنسجم ودروة الوصف لبلوغ الحلّ وفكّ عقدة الفوضى
حصادُكَ اليومَ ضِغْثٌ يابسٌ حَطَبٌ
وحَبُّ حقلِكَ في جيبِ السَلاطينِ
شرح صادق واقعي لمآل خيرات الوطن المورّدة إلى جيوب السّلاطين.
رائعة كلماته شاعرنا في تصوير الجفاف لأن قمّة الفقر جفاف الموارد وهنا تكتمل ثلاثيّة التّصوير من صورة ناريّة تصف قسوة الحال وانكارها إلى مائية تحاول الإقناع بدبلوماسيّة وحنكة نحو تغيير مسار التّفكير والموقف إلى صورة اليباس والجفاف وهي آخر تنبيه للإقناع بالتّمرد والثّورة على الأحوال
وأيّ ثورة ،يقول:
فاسْتَكْمِلِ الدَربَ مِقداماً أَخا ثِقَةٍ
واسْمِعْ دعائَكَ مَخْتوماً بآمينِ
ثورة داخلية نفسيّة إيمانيّة!!
فكل تغيير يبدأ من الدّاخل وعند الإرادة يؤخذ بالزّمام
قال تعالى"إنّ الله لا يغيّر بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم"
صدق الله العظيم.
كان للأثر النّفسي في عالم شاعرنا الدّاخلي تأثيرا على عالمنا الخارجي من خلال ما طرحه من درس وعبر وعظة في حصاده المرّ...فهل يمكن أن نشعر بلذّة الحصاد الأدبي الشّاعري وعذوبته في واقعنا ...؟
كما تذوّقناهما في فكرنا وحسّنا!!
التعليقات على الموضوع