رسائلي.. هيثم النسور قصيدة هاربة من زمن الفحولة الشعرية...محمد الحراكي

 

رسائلي.. هيثم النسور  قصيدة هاربة من زمن الفحولة الشعرية...محمد الحراكي

رسائلي لـ : هيثم النسور قصيدة هاربة من زمن الفحولة الشعرية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنه هيثم  محمد النسور، الشاعر الذي ولد في العاصمة الأردنية عمّان، وقضى حياته متنقلًا بين أوروبا وأمريكا، والذي رافق القلم طيلة حياته، فعمل في الصحافة المحلية والعربية، وطرق أبواب الشعر في أغراضه المختلفة، فأبدع وأجاد، وعُني بجمع الإرث الشعري المعاصر ما استطاع إلى ذلك سبيلًا فقام بتأليف موسوعة (ديوان الشعراء العرب المعاصرين)، وهو في مختلف مراحل حياته الأدبية ذلك الرجل الذي ظلت الغربة تترك في قلبه جراحها، فنزفت شعرًا كثيرًا.

لم يستطع الشاعر على تنوع نتاجه، أن يكسر قيود الشعور بالغربة، فتسلل شعوره بها إلى نتاجه الأدبي، بدءًا من المفردة وانتهاء بالاتجاه العام الذي يصور طبيعة التجربة في مجملها.

استوقفتني قصيدته (رسائلي) ودفعتني إلى تجاوز القراءة العابرة، لأصل معها إلى شيء من التعمق والبحث.

وكانت هذه الدراسة...

نصّ القصيدة:

سأسألُ عَنْكُمْ فِيْ نُـجُـوْدِ الـفدَافِدِ

وتَسْتَـخْبِرُ الأَظْعَانَ عَنْكُمْ قَصَائِدِي


فَتَـبَّـاً لِهَـذَا الـْبَيْـنِ شَـتَّـتَ شَـمْلَنَا

وَآذَى سَـوَادَ الْـقَـلْبِ طُـوْلُ التَّبَاعُدِ


أَعَـاذِلُ هَـونَـاً لا تَـلُـمـنِـي لَــطَـالَــمَـا

نَـأَيْتُ بِـنَـفْـسِي عَنْ طَرِيْفٍ وَتَـالِـدِ


لَقَـدْ هَاجَـنِي وَجْـدٌ وَلـَسْتُ بِجَاحِدٍ

يُفَـتِّتُ قَلْبِيْ الصَّبَّ عَذْلُ الْحَوَاسِدِ


فَأَفْصَحَ جِسْمِيْ عَـنْ ضُلُـوْعٍ كَـأَنَّهَا

حِجَارَةُ رَضْـفٍ فِيْ زَوَايَـا الْـمَـوَاقِدِ


لَحَـتْـنِي صُرُوْفُ الدَّهْرِ بَـغْـياً كَأَنَّمَا

زَمَـانِيْ يُـجَازِيْـنِـي بِأَدْهَى الْـمَكَائِدِ


أَيَـا دَهْـرُ هَوْناً قَدْ تَقَاضَتْ شَبِيْبَتِيْ

وَحَـلَّ مَـشِـيْـبٌ؛؛ لَـيْـتَـهُ لَـمْ  يُـرَاوِدِ


فِراشِي عَلَى الرَّمْضَاءِ مُدَّتْ بِسَاطُهَا

مِنَ الْأَسْلِ وَالْأَشْوَاكِ تُحْشَى وَسَائِدِي


وَفَـاتِـنَـةُ الْأَلـْحَـاظِ تَـبْـنِـي شِـرَاكَهَا

بِـطَرْفٍ سَـدِيْدِ السَّهْمِ لابُدَّ صَائِدِي


شَكَوْتُ إِليْهَا قَـسْوَةَ الْبَيْنِ فَانْـثَنَتْ

كَظَبْيٍ رَهِيْفِ الْخَصْرِ فِي الْبِيْدِ شَارِدِ


عُيُوْنِي تُنَاجِي الْقَلْبَ قَالَ لَهَا اقْصِرِي

فُـؤَادِيْ رَهِـيْنٌ فِيْ شِـبَـاكِ الْمَصَائِدِ


فَرِفْقـاً بِـمُضْنًى تَسْتَـبِـيْـحُ ؛ بِجِيْدِهِ

مَـكَـانَ الْـلَآلـِيْ حَـلَّ عِـقْـدُ الْخَرَائِدِ


سَـأُرْخِصُ دَمْعَ الْعَيْنِ فِيْكُمْ صَبَابَةً

وَعَــهْــدِي بِــهِ كَـالدُّرِّ ضِمْنَ الْقَلَائِدِ


أَلَا يَـا نَـسِيْـمَ الـشَّـوْقِ بَـلِّـغْ سَلَامَنَا

لِأَهْـلِـيَ فِـي الْأُرْدُنِّ ؛ خَـيْرِ الْأَمَاجِدِ


فَـمَـنْ مُـبْـلِـغٌ عَـنِّـيْ؛ بِـأَنِّـيْ أَتُوْقُهُمْ

كَـمُـرْضِـعَـةٍ تَـحْـنُـو لـِـضَـمِّ الْـوَلَائِدِ


أَطَـلْـتُ غِـيَابيْ مُـرغَماً غَيْرَ رَاغـِبٍ

كَـأَنَّ سـقَـامِيْ رَاسِـخٌ غَـيْـرُ بَــائِــدِ


صَبَرتُ عَلَى الْهِجْرَانِ طَالَ فِراقُكُمْ

عَسَاهَا بِطيْبِ الْخُبْرِ تَأتِي هَدَاهِدِي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفحولة في الشعر مصطلح عرفه النقد العربي القديم، وكان لا بدَّ للشاعر الذي يُعَدُّ فحلًا أن تتوفر له صفات محددة مثل كثرة حفظ الشعر وسعة المعرفة بالأنساب وجودة شعره في الاغراض المختلفة، إضافة إلى جودة شعره وقوة سبكه.

ومعلوم أن معظم هذه الصفات تحيلنا إلى مرجعية خارجة عن النص.

وإذا كان الأمر كذلك فلماذا نطلق على قصيدة (رسائلي) وصف الهروب من زمن الفحولة، ومن باب لفت النظر فإننا لم نقل هاربة من الفحولة وإنما هاربة بوصفها قصيدة عصماء من زمن الفحولة إلى زمننا هذا. 

عند قراءتي قصيدة النسور لم أستطع أن أغادر الإطار الزمني الذي أعادني إلى عصور الشعر الزاهية معنًى ومبنًى.

القصيدة تبدأ بالسؤال (سأسأل عنكم..) هكذا بصيغة الجمع، الصيغة التي لا نستطيع في مطلع القصيدة أن نجزم باتجاهها إلى التفخيم والتعظيم أم أن المقصود فعلًا التوجه بالسؤال إلى جماعة. 

والمسؤول هم (النجود) و (الأظعان) وهما لفظان كثيرا ما وردا في الشعر القديم حيث كانت الصحارى مسرحًا للرحيل، والأظعان أداته، بل سكينه التي تذبح العاشقين.

فالشاعر إذا يسأل عن أحبته تلك التلال والمرتفعات والعابرين بها من ظعائن الرُّحَّل.

ثم يتطرق إلى الشكوى من البين، وهي الشكوى القديمة الجديدة، فما زال الإنسان يشتكي لوعة الفراق عن أحبابه.

ويطلب من العاذل– كعادة الشعراء القدامى -  أن يكفَّ عن اللوم والعتب، ويلي ذلك وصف أثر الفراق في قلب الشاعر وفي جسده أيضًا.

وإلى هنا يجد القارئ نفسه أمام معانٍ يألفها، لكنه لا يملُّ من الانصياع لسطوة تأثيرها؛ كونها تمثل الذاكرة الثقافية الجمعية التي تأنس الروح بها وتميل النفس إليها.

ولأن الوقت وعاء الحدث، ولأن أكثر ما تضيق به القلوب عند الفراق هو امتداد الوقت حتى لتكاد عقاربه تسكن سكون الموتى، لذلك كله يلتفت الشاعر إلى الدهر معاتبًا إياه طالبًا منه أن يكفَّ عن تقلباته التي مازالت تحكم عليه بفراق أحبته وتباعد المسافات بينهم.

ثم تظهر الأنثى لأول مرة في القصيدة في البيت التاسع، فيصف الشاعر جمال عينيها، ثم حديثه معها ونفورها كالغزالة البرية حين أراد الشاعر منها أن تنصت إلى مواجعه ومرارة أحزانه.

وهنا نفهم أن الضمير (كم) بقوله في مطلع القصيدة (سأسأل عنكم) لم يكن المقصود به المحبوبة، والبين الذي اشتكى منه الشاعر لم يكن بعدًا عنها، فالفتاة قريبة بحيث يتأمل جمال عينيها، ودانية بحيث يحاول أن يشتكي إليها من شدة لوعته واتقاد حزنه، وإن كانت كثير النفور تمنعًا وتدللًا.

وتظل القصيدة تأخذ بيد قارئها في مجاهلها، وتعبر به بين شعابها، إلى أن يصل إلى الأبيات الأربعة الأخيرة حيث يقول الشاعر:

أَلَا يَـا نَـسِيْـمَ الـشَّـوْقِ بَـلِّـغْ سَلَامَنَا

لِأَهْـلِـيَ فِـي الْأُرْدُنِّ ؛ خَـيْرِ الْأَمَاجِدِ

وهنا ينزاح الستار ليدرك القارئ أن ما لمسه في القصيدة من حرقة الوجد، ومرارة الشوق، وقسوة الفراق، وانكسار الروح، إنما مرده إلى غربة الشاعر عن بلده، والبلد ليست أرضًا وحسب وإنما هي روح الشاعر تقاسمها أهله ومحبوه فظلت تتحرك فيهم في أرجاء الوطن.

والغربة قهر؛ فالشاعر لم يغترب طواعية وإنما فرضت عليه ظروفه أن يُلقى في سعير الاغتراب.

وككل غائب يفكر في العودة، وكل تائه يفكر في أن تهديه الدروب إلى مستقر مشاعره، يتسلح الشاعر بالأمل وهو وحده ما يمنحه الصبر على شدة ما يلاقيه في اغترابه، يقول:

صَبَرتُ عَلَى الْهِجْرَانِ طَالَ فِراقُكُمْ

عَسَاهَا بِطيْبِ الْخُبْرِ تَأتِي هَدَاهِدِي

بالنظر إلى البنية اللغوية للقصيدة نجد أن مفرداتها موغلة في التقليدية، تستند في نعظمها إلى التكوين اللغوي للقصيدة الممتدة منذ العصر الجاهلي وصولًا إلى عصر النهضة أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حين شهد الشعر ارتدادًا فنيًا ليحاكي - في معظمه -  القصيدة القديمة شكلا ومضمونًا، فالقصيدة هاهنا تعج بمفردات معتقة مثل: الفدافد ، الأظعان، لحتني، الأسل... وغيرها

كما نجد ذلك أيضًا على مستوى التركيب، مثل:

طريف وتالد ، عذل الحواسد، لحتني صروف الدهر، كَظَبْيٍ رَهِيْفِ الْخَصْرِ ، حل عقد الخرائد....وغيرها

وفي الحقيقة فإننا نرى أن ابتعاد لغة الشاعر عن مجاراة عصره، واستقاءه من التراث القديم، ربما خلق حاجزًا بين عمله الفني والجمهور الأدبي الذي يميل في معظمه إلى اللغة القريبة من يومياته، بحيث تكون مفهومة المعنى رقيقة اللفظ؛ فعلى الرغم من اللغة الرصينة القوية ومتانة النسيج الفني إلا أن قارئ اليوم سيضطر إلى البحث عن معاني بعض المفردات ليستطيع فهم القصيدة، وهذا دون شك سيؤدي إلى قطيعة (لنقل مؤقتة) بين النص والمتلقي.

ولا تخرج الصورة الفنية بعمومها عن الإطار التقليدي في بناء الصورة حيت يكثر التشبيه بين المحسوسات، كتشبيه الضلوع بحجارة المواقد في قوله:

فَأَفْصَحَ جِسْمِيْ عَـنْ ضُلُـوْعٍ كَـأَنَّهَا

حِجَارَةُ رَضْـفٍ فِيْ زَوَايَـا الْـمَـوَاقِدِ

وفي تشبيهه الفتاة بالظبي، وهي الصورة الأكثر تداولًا في الشعر العربي القديم، حتى لا تكاد تخلو منها قصيدة، يقول:

شَكَوْتُ إِليْهَا قَـسْوَةَ الْبَيْنِ فَانْـثَنَتْ

كَظَبْيٍ رَهِيْفِ الْخَصْرِ فِي الْبِيْدِ شَارِدِ

ومثل ذلك تشبيه الدمع بالدر، في قوله:

سَـأُرْخِصُ دَمْعَ الْعَيْنِ فِيْكُمْ صَبَابَةً

وَعَــهْــدِي بِــهِ كَـالدُّرِّ ضِمْنَ الْقَلَائِدِ

وفي صورة مؤثرة يشبِّه الشاعر اشتياقه إلى أحبته بتلهف الأم الحنون لاحتضان وليدها، يقول:

فَـمَـنْ مُـبْـلِـغٌ عَـنِّـيْ؛ بِـأَنِّـيْ أَتُوْقُهُمْ

كَـمُـرْضِـعَـةٍ تَـحْـنُـو لـِـضَـمِّ الْـوَلَائِدِ

وإذا كان الشاعر يرى في الشعر القديم أنموذجًا يجب على الشاعر أن يحتذيه إذا ما أراد لقصيدته أن ترقى إلى مصاف القصائد العظيمة، فإنه والحق يقال استطاع أن ينتقي من المعاني أعمقها، ومن الكلمات أجزلها، ومن التراكيب أقواها دلالة، ومن الصور أشدها تأثيرًا، ثم صبَّ ذلك كله في وعاء موسيقي يتناسب وحالة الحزن التي يعبر عنها، فاختار لها البحر الطويل أكثر البحور الشعرية شيوعًا، وهو يمنح الشاعر متسعًا للتعبير عن أشجانه وأفكاره، في (ريتم) هادئ فيه من الهدوء والامتداد بقدر ما فيه من العظمة والعمق.

 إذًا ما بين المنهل العذب الذي استمد منه الشاعر مكونات قصيدته والمشاعر الناتجة عن تجربة عاشها الشاعر فألزمته أن يجعلها لَبِنةً في صرحه الشعري الثريّ، كانت هذه القصيدة.

لذا قلنا في وصفها إنها.. (قصيدة هاربة من زمن الفحولة الشعرية)


محمد الحراكي

ليست هناك تعليقات