فصل في حروف المعاني الباء..د.وجيهة السطل
فصل في حروف المعاني(الباء)
الباء في تعريف علم الأصوات:
• حرف شفوي، مجهور، انفجاري، مرقق .وقد يتحول إلى مطبق مفخّم ،إذا جاور صوتًا مفخّمًا لتحقيق الموسيقية، وسهولة النطق. نحو: (ضباب ، صبَّ ، طبَعَ ) .
• وهو حرف جرّ، عاملٌ وظيفيّا في الجملة. وقيل إنه كُسِر ليوافق حركة مجروره.
والاسم بعده مجرور لفظًا ومعنًى،في الجر الحقيقي، ولفظًا فقط في الجر الزائد.
أما معانيه فكثيرة ،ولابد من معرفتها ، لفهم الكلام وخاصة آيات الذكر الحكيم .
وللباء أربعة عشر معنًى:
١- التعدية :
وتعني إيصال معنى المفعولية إلى الفعل اللازم على سبيل التخصص. فكل فعل لازم، يختص بحرف جر معين، ليتحقق له معنى التعدية، وهذا يدخل في صميم فلسفة كلّ لغة. فقولنا: سرت به يختلف معنىً عن قولنا: سرت إليه، أو سرت فيه.
وتسمى باء النقل. وتعادل الهمزةَ في أثرها في تعدية الفعل،و جعل اللازم متعدِّيًا.فيصير بذلك الفاعل مفعولًا به.
كقوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} ، أي أذهبه.
وقوله: {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة} ، أي لَتُنيءُ العصبةَ وتثقلُها.
..ومن باء التعدية قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} . أي سيَّرَهُ ليلًا.
وقد ألمح ابن عاشور هنا إلى أمر ذي بال، فقال: "إن باء التعدية جاءت من باء المصاحبة على ما بينه المحققون من النحاة، فإن أصل قولك: ذهبت بزيد، أنك ذهبت مصاحبًا له، فأنت أذهبته معك، ثم تنوسي معنى المصاحبة؛ ولأجل هذا الملحَظ اعتبر ابن عاشور أن (الباء) في قوله سبحانه: {أفأمنتم أن يخسف بكم} للتعدية بمعنى المصاحبة.
٢- القَسَم:
والباء أصل حروفه، ويجوز سبقها بالقسم فعلًا أو مصدرًا ( قسمًا بالله ، أقسم بالله )
ويجوز حذفه، نحو: بالله لأجتهدنَّ.
وتدخل على الظاهر، كما رأيت، وعلى المضمر، نحو "بك لأفعلن".وهذا غير مقبول شرعًا إلا إذا كان الخطاب موجَّهًا لله -عز وجلّ-
ومثاله على ما قاله بعضهم قوله عز وجل: {ادع لنا ربك بما عهد عندك}، ذكرالزمخشري أن (الباء) في الآية على معنيين...الثاني: أنها باء القَسَم، والمعنى: أقسمنا بعهد الله عندك، لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك.
ومثال مجيء (الباء) بمعنى القَسَم أيضاً قوله سبحانه: {قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين}، قال الشوكاني: "هذه (الباء) يجوز أن تكون باء القَسَم، والجواب مقدر، من المعنى أي: أقسم بإنعامك عليَّ، لأتوبنَّ.
وجاز القسم بالإنعام،لأنه اكتسب القدسية، من إضافته إلى ضمير الجلالة.
٣- السببية والتعليل:
وهي التي ترتب أمرًا على أمر، وتدخل على سبب الفعل، وتبيِّن العلة التي من أجلها حدث.
نحو قولنا: مات بالجوع .
و(الباء) بحسب هذا المعنى كثير ورودها في القرآن الكريم من ذلك :
قوله تعالى: ( فبظلمٍ من الذين هادوا حرمنا عليهم طيباتٍ أُحِلَّت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا ).
، وقوله {فبما نقضهم ميثاقهم لعنَّاهم}
وقوله عز وجل:
{إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل}، فَظُلْمُهُم أنفسَهم سببُه عبادة العجل. ومنه قوله عز وجل: {فكلا أخذنا بذنبه} ، أي: عاقبناهم بإرسال الريح، والأخذ بالصيحة، والخسف، والغرق بسبب استكبارهم في الأرض، وصدهم عن سبيل الله.
٤- الاستعانة:
وتدخل على المستعان به،( أي الوسيلة التي بها حصل الفعل) وتعرف من سبقها بلفظ مستعينًا .وتتعلق مع مجرورها بحال محذوفة جوازًا تقديرها مستعينًا. نحو:
- كتبت بالقلم ، أي كتبت مستعينًابالقلم،
- بدأت عملي باسم الله ،فنجحت بتوفيقه.
الباء الأولى للاستعانة، والثانية سببية.
- وقوله تعالى على لسان سيدنا موسى عليه السلام:
( وأهشُّ بهاعلى غنمي ).
والمثال القرآني الشهير في دلالتها على هذا المعنى قوله تعالى: {بسم الله} (الفاتحة:١)، قال أبو حيان: "الباء في {بسم الله} للاستعانة"، وتقدير الكلام: أقرأ أو أتلو مستعينًا بـ {اسم الله}.
- وعلى هذا أيضاً قوله تعالى: {ولا طائر يطير بجناحيه} ، فـ (الباء) هنا للاستعانة.
٥- الإلصاق :
والإلصاق إما حقيقي، نحو: أمسكت به. ومسحت جبيني بيدي.
وإما مجازي، نحو "مررت بدارك، أو بك"، أي بمكان يقرب منها أو منك.
نحو قوله تعالى : ( وما تلك بيمينك ياموسى؟) فهذا إلصاق حقيقي .
وقوله تعالى في وصف عباد الرحمن ( وإذا مَرُّوا باللغو مَرُّوا كرامًا ) فهذا إلصاق مجازي .
ومنه تفسير الباء عند بعض المفسرين في قوله تعالى :{ وامسحوا برؤوسكم }.
٦- العِوَض أو باء المقابلة:
باء المقابلة، وهي الداخلة على الأعواض.وتعني أخذ شيء في مقابل شيء ،مالًا أو غيره ،نحو:
( وشروه بثمن بخسٍ دراهم معدودة ) ،معنى شروه :باعوه .
وخذ الدار بالسيارة.
اشتريت الفرس بخمسمئة دينار .
وقوله سبحانه: { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}، (الباء) هنا باء المقابلة والمعاوضة، والتقدير: الحر مأخوذ بحر مثله. والعبد مأخوذ بعبد مثله. والأنثى مأخوذة بأنثى مثلها.
٧- البدل :
ويشبه العوض إلا أن اختيار أحد الشيئين ،لايساويه عِوَضٌ ولا مقابلة نحو قوله تعالى: ( أولئك الذين اشتروا الضلالةَ بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ).فالمتبادَلن لايستويان.
ومن ذلك حديث "ما يسرُّني بها حُمُر النعم".
وقول بعضهم "ما يسرُّني أني شهدت بدرًا بالعقبة" أي بدلها.
٨ - الظرفية :
الزمانية أوالمكانية بمعنى (في ) .
من ذلك قوله تعالى:
- {ولقد نصركم الله ببدر}
- وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل} .
- {وما كنت بجانب الغربي}
- {نجيناهم بسحر}
•ببدر : تحتمل معنى الظرفية الزمانية والمكانية. في موقعة بدر ، في زمن المعركة.
بالليل ظرفية
زمانية.
بجانب ظرفية مكانية . بسحر ظرفية زمانية .
واجتمع المعنيان في قول الشاعر نزار قباني، في قصيدة غرناطة:
يتألق القرط الطويل بجيدها (الظرفية المكانية)
مثل الشموع بليلة الميلاد (الظرفية الزمانية )
٩- المصاحبة: بمعنى (مع) وتكون مصاحبة حقيقية نحو : بعتك الفرس بسرجه،والدار بأثاثها.
ومصاحبة مجازية.والمثال القرآني الأبرز عليها قوله سبحانه: {يا نوح اهبط بسلام منا} ،الباء للمصاحبة، أي: اهبط مصحوبًا بسلام منا. لأن مصاحبة السلام -الذي هو التحية- هي مصاحبة مجازية. ونظير هذا قوله عز وجل: {ادخلوها بسلام آمنين} ، أي: ادخلوا الجنة مصحوبين بالسلامة. والمعنى: مُسَلَّمًا عليكم.
كما حُكي عن الملائكة أنهم يدخلون على أهل الجنة، يقولون: {سلام عليكم}
١٠-المجاوزة: بمعنى "عن"
تأتي بمعنى (عن) وهو من معاني (الباء) الواقعة بعد فعل السؤال
كقوله تعالى {فاسأل به خبيرًا} ، أي عنه.
وقوله: {سأل سائل بعذاب واقع} ،
وقوله: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم}.
١١- الاستعلاء، أي بمعنى "على"
.كقوله تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يُؤدِّهِ إليك} ، فـ (الباء) هنا تفيد الاستعلاء، أي على قنطار ؛ بدليل قوله سبحانه: {قال هل آمنكم عليه} . ونظير مجيء (الباء) بمعنى (على) قوله -عز وجل- :
{وإذا مروا بهم يتغامزون} ، أي: مروا عليهم؛ بدليل قوله سبحانه: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين}.
١٢- الزائدة للتوكيد :
ويُعبِّر المفسرون عنها بـ (الباء الزائدة) ، أي :أن حذفها لا يُخلّ بالمعنى، وأنَّ ذكرها يفيد التوكيد.
وتجُرُّ في الإعراب لفظًا.وتأخذ الكلمةبعدها محلها من الإعراب.
نحو : بحسبك ما فعلت، أي :حسبُك ما
فعلت.حسب: مبتدأ. وقوله -صلى الله عليه وسلم - بحسبِ ابنِ آدم لقيماتٌ يُقِمْنَ أوَدَه ...)
ثم إنهم بعدُ يقولون: إن زيادة (الباء) تكون في مواضع:
- فتزاد في الفاعل، كما في قوله تعالى:
{وكفى بالله حسيبًا} ، قال ابن عاشور: "الباء زائدة للتوكيد"، أي: كفى الله حاسباً لأعمالكم ومجازياً بها.
ونظيره قوله عز وجل: {وكفى بربك وكيلًا} ، قال الرازي: "اعلم أن (الباء) في قوله: {وكفى بالله} {وكفى بربك} في جميع القرآن زائدة، هكذا نقله الواحدي عن الزجاج".
- وتزاد في المفعول، مثال ذلك قوله سبحانه: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} ،
(الباء) في {بأيديكم} زائدة، والتقدير: ولا تلقوا أيديَكم،على سبيل المجاز المرسل وعلاقته الجزئية. قاله القرطبي.
ونحو هذا قوله -عز وجل- : {وهُزّي إليك بجذع النخلة} ، (الباء) هنا مؤكدة.
- وتزاد في المبتدأ، والمثال عليه قوله تعالى: {بأيِّكم المفتون} .
(الباء) زائدة، والمعنى: أيُّكم المفتون؟ قال قتادة: أي: المجنون الذي فتن بالجنون. وثمة أقوال أُخَرُ في معنى (الباء) هنا غير هذا.
- وتزاد في خبر النواسخ النافية.
. (ليس و ما ).
وهذا هو الأسلوب الذي تتبعه اللغة العربية في توكيد المنفي ، فضلًا عن التوكيد اللفظي بالتكرار. من ذلك قوله عز وجل: {وما الله بغافلٍ عما تعملون} ، التقدير: وليس الله غافلاً عن عمل عباده، بل يعلم عمل كلِّ عامل، ويحاسب كلًّا على عمله.
ولا زيادة في آيات الذكر الحكيم.وتعرب: حرف جر وصلة للتوكيد.
١٣- معنى "مِن" التبعيضية:
وفي إفادة الباء التبعيض خلاف بين العلماء قديمًا :
القول الأول : الباء لا تفيد التبعيض، ولا يعرف استعمالها فيه .
• قال ابن جني في سر الصناعة : فأما ما يحكيه أصحاب الشافعي من أن الباء في قوله -تعالى- {وامسحوا برؤوسكم} للتبعيض، فشيء لا يعرفه أصحابنا ولا ورد به ثبت. و به يقول الأحناف، و أكثر المالكية و بعض الشافعية،
وأكثر الحنابلة .
وإليه ذهب البصريون من النحاة.
١٤- باء الغاية:
وهي التي بمعنى (إلى) التي تفيد الغاية، والمثال عليه قوله سبحانه: {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن} ، قال أبو حيان: و{أحسن} أصله أن يتعدى بـ (إلى) قال تعالى: {وأحسن كما أحسن الله إليك} ، وقد يتعدى بـ (الباء)، قال تعالى: {وبالوالدين إحسانا}، كما يقال: أساء إليه، وبه". وقال ابن عاشور: "وعندي أن (الإحسان) إنما يُعدى بـ (الباء) إذا أريد به الإحسان المتعلق بمعاملة الذات وتوقيرها وإكرامها، وهو معنى البر؛ ولذلك جاء {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن}؛ وإذا أريد به إيصال النفع المالي عُدِّي بـ (إلى)، تقول: أحسن إلى فلان، أي صله بمال ونحوه.
هذه جملة المعاني التي جاء عليها حرف (الباء) في القرآن الكريم على ما ذكره المفسرون وأهل العربية. وواضح من الأمثلة التي ذكرناها لمعنى (الباء) في القرآن الكريم، أن المفسرين قد يختلفون في تعيين معنى من هذه المعاني وتحديده، فيرجح كلٌّ منهم معنى يراه هو الأوفق والأنسب في الدلالة على معنى الآية. ولا حرج في ذلك، فاحتمال الحرف لأكثر من معنى أمر وارد، بل لعل في الاختلاف خيرًا؛ إذ فيه معنى مفيد، وحكم جديد؛وتوسعة على المسلمين . وقد تقدم خلاف العلماء في تحديد معنى (الباء) في قوله تعالى: {وامسحوا بروسكم} حيث حمل الشافعي رحمه الله (الباء) هنا على معنى (التبعيض)، ومن ثم اعتبر أن الواجب في الوضوء مسحُ رُبُع الرأس، وقدَّر معنى الآية: (وامسحوا بعض رؤوسكم). وحمل مالك وأحمد- رحمهما الله- (الباء) هنا على معنى (الإلصاق)، ومن ثم رأى أن الحكم مسح جميع الرأس. وفي كل خير.
...وتبقى السليقة اللغوية السليمة ضابطًا للمعلم والطالب في اكتشاف معاني الأدوات في النصوص العادية في اللغة العربية بعد الاهتداء بما توصل إليه العلماء ومفسرو القرآن الكريم والنحاة قديمًا من معانٍ .
أشكر لكم صبركم علي ، ومتابعتكم حتى النهاية.
أتعبني في إعداده، ولكنني استمتعت كثيرًا.
أرجو أن تنالوا الاستمتاع دون التعب.
وفوق كل ذي علم عليم
التعليقات على الموضوع