الحالُ بل هولُ الأحوالِ والتّناصّ القرآنيّ قراءة نقدية لقصيدة الشاعر عبدالعزيز كرومي بقلم الناقدة نافلة مرزوق العامر
الحالُ بل هولُ الأحوالِ والتّناصّ القرآنيّ
Intertextuality&Qura’an
في رائعة خبير الصّورة
الشّاعر الفذّ
كرومي عبد العزيز
""هي الحال"
قراءة بقلم النّاقدة
نافلة مرزوق العامر
Stella Ra Nch
….هي الحال....
من برج شعره العاجيّ وحرفه العاج أتى كرومي كالرّوميّ روحا شاعريّة مغموسة بطاقات روحيّة روحانيّة إيمانيّة إسلاميّة إرتوت حتى شبعت من نفحات قرآنيَة يرنّ صداها في كلّ زاوية في بيئته وكلّ نبضة في وجوده وكلّ ركنٍ في روحه. لمّا كان القرآن هو لبّ الكيان المسلم Core وجوهر فكره ومرجع سلوكيّاته ولمّا كان هذا المسلم هو الشّاعر آنبثقت حروفه بالضّرورة مرآة لما يختلج بداخله وما يدور حوله من أحداث وصراعات وتوجّهات فأتت هذه الحروف بالضّرورة بلون معتقده وروح فلسفته وحرف فكره المسلم ومن هنا ظهر في قصيدته
"هي الحال"
التّناص القرآني بشكل ساطع ليعلن أنّ شاعرنا يحمل فكرا إسلاميّا صافيا منه ينهل ويغذّي شعره وينشره للنّاس.سنرى في قصيدته المقرؤة بين أيدينا كيف يحيي الشّاعر قصصا وعبرا تاريخيّة دينيّة قاصدا بذلك إحياء وإنعاش الأرواح المنهكة من ضراوة الواقع بجرعات إيمانيّة تشحنها بقوة وإرادة لمتابعة المشوار الذي هو الحياة كذلك يجعلها دروسا للشّعراء ترشدهم إلى سبل الإبداع الرّاقي السّامي.
وهنا لا يسعنا سوئ الثّناء على سلامة التّوجه ورقي منطقه حيث ارتأى الشَاعر الفذّ تصويرا قرآنيّا للحال الحاصل وهو من أفضل ما يمكن من تصوير وأكثره توفيقا حسب اعتقادي فهو يوائم محليّة وإنسانيّة الحالة الموصوفة وهل بعث القرآن الأكرم إلّا للإنسانيّة جمعاء دون تفرقة أو تمييز؟؟والدّليل من النّص في إيراد قصص شّعوب عاشت قبل نزول القرآن بقرون وقرون.نعم تناصّ دينيّ يحسم تقارب الوقائع التّاريخية الآنسانيّة فجاء العنوان بحرف كالحسام حسم الحكمة الوجوديّة فيما يتعلّق بفساد الدّنيا الناس والواقع بكلمتين وهما """هي…الحال"""
هي الحال بتلقائيّة ومباشرة دون جدال ولا مجال للنقاش
دون إلتوأء كخط مستقيم يمثّل الحقيقة باختصار البرهان.
وكم صدق شاعرنا وكم أصاب بهكذا عنوان!!
كيف لا وكما يقول:
هي الْحالُ أَهوالُها آتِيهْ
بِريحِ الْغَدِ الصَّرْصَرِ الْعاتِيهْ
شاعرنا يصف الحال ومجريات الأمور في أوطاننا ومجتمعاتنا العربيّة بالمهولة لا بلل فما هو آت لهو أعظم سيكون كريح عاصفة مهلكة تماما كريح صرصر،وما أدراك ما صرصر!!
تناصّ يذكّرنا بالآية٦من صورة الحاقّة"وأمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر" صدق الله العظيم، وعاد هم قوم عبدوا الأصنام فأرسل الله تعالى لهم النّبي هود ع يهديهم فازدروه ونبذوه وكذّبوه فبعث لهم الله ريح صرصر وهي ريح باردة جدّا تحرق أبدانهم كالنّار وتعبث بديارهم حتى أهلكتهم وقد وصفت أبدانهم بالعملاقة الضّخمة لكنّها لم تقو على ريح صرصر العاتية فخرّت هاوية. ويتابع شاعرنا في مجازه الرّائع خاصّة حين يصف الأعجاز بالكلاب العاوية وهو على ما أعتقد وصف مبتكر وتشبيه مرسل فقد شبّه الأعجاز بالكلاب وأضاف على تشبيه المهلكين بالأعجاز فيصح القول هنا بأنّ التّناص أصبح متفرّعا وهو إبداع وتحديث يضاف لقائمة التّميز عند شاعرنا القدير ويستطرد شاعرنا واصفا المستقبل بأنّه:
ولا عُدَّةٌ ؛ بِئْسَ مِنْ عَددٍ
كأَعْجازِ نخل عَوتْ خاوِيهْ
مستقبل يخلو من "كيف" وما كلّ الأعداد والأنفس المتراكمة سوى "أعجاز نخل" خاوية ،مرّة أخرى تناصّ قرآنيّ يعيدنا إلى آية٧من سورة الحاقّة وتقول"سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيّام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية" صدق الله العظيم،هي متابعة الوصف ومتابعة الآيات في نفس الصّورة حيث يخبرنا الشّاعر بأن كثرة العدد في الشّعراء لا تزيد من الأمل بل تنقص! فهم عدد بلا عدّة كأعجاز نخل فارغة خالية من حياة أمّا الإيحاء فواضح لقوم عاد حين ضربت صرصر أبدانهم الجسام فصرعتهم واخلتهم من الرّوح بأمر الله فغدوا كجذوع نخل قطعت رؤوسها وهوت على الأرض.ربّما تلميح بعواقب الحال وتنبّؤ بانتكاسة شعريّة إجتماعيّة قادمة.كيف لا وقد أبتلينا بفتن ومصائب قضت على أحلامنا:
غَزَتْ صَفْوَ أحلامِنا فِتَنٌ
علينا بِإِرهابها هاوِيهْ
تشخيص فذّ فالفتنة " قاتلة "الحلم وعتبة الهاوية
واستعارة مكنيّة رائعة في تشبيه الفتن بالغازية...هذا التّكثيف في الإستعارات لم يأت عبثا فالموضوع المًبطّن إلى حدّ ما هو الشّعر ،نعم لأنّ شاعرنا يعلّق آماله على مهمّة الشّعر في الحياة فيقول:
فلا شعرَ يُجْدي ولا أُغْنِياتٍ
ولا عينَ إلا بَدتْ باكِيهْ
الشعر فقد طاقته ودوره في التّأثير.ثمّ ينتقل شاعرنا ليحكي قصّة الحال في قصّة القصيد الضّائع فيميط اللّثام ببديع الكلام ويسقط القناع ببلاغة الإقناع وتتّضح الرٍؤية وتبان ويكون أنّ الحال التي يصفها شاعرنا هي أيضا حال القصيدة فهي:
وتلك التي كنتُ أَهوَى صغيراً
تهاوتْ وأَكْمَلَتِ الْباقِيهْ
ما كان يهواها من قصيدة العصور الذّهبيّة اختفت الآن وتهاوت تماما كما باتت هابطة هاوية القصيدة الحاضرة الموجودة معنا لقد هبط سلطان الشّعر وتدنّى مستواه!!
نعم فقد اختفت عقودا جواهر الشّعر وما طفت ثانية إلّا باهتة كوجه مريض واهن الأركان.فأركان القصيد من وزن قافية وإيقاع باتت في الحضيض كما قال:
تَوارَتْ عُقوداً و جاءتْ خريفاً
فَأَتْلَفَتِ الوزنَ والقافِيهْ
لقد خانَها الصَّوْتُ ؛ ما أَطرَبتْ
وما وَجَدتْ أُذُناً صاغِيهْ
ثمّ يعود شاعرنا بتناصّ قرآنيّ آخر يحقنه في القصيد غازلا تناصّات بمنطق بنيوي سليم ووعي إبداعي لغايته الأدبيّة رابطا أحداث تاريخيٍة بحاليّة كأنّما لسان حاله يقول مهما اختلفت الفترات يبقى الإنسان إنسانا بطبيعته التي لا تتغيّر وضعفه مهما تبدّلت الأزمان وكم هو صادق في ذلك.نعود للقصيد فالبيت يذكّرنا بالآية٩٢ من سورة النّحل:"ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا تتّخذون إيمانكم دخلا" صدق الله العظيم.
القصة تعود لأمرأة حمقاء من مكة تغزل شيئا وتنقضه بعد إبرامه وفي القرآن الكريم المعنى يقع على من عاد لكفره من بعد إيمان ولمن كدّ في نيل إيمانه ثمّ نكث بما عاهد الله وهو دون شك يقابل المكيّة في الغباء :
غدتْ كالتي نَقَضتْ غَزْلَها
مساءً ؛ فَباتتْ يداً خاوِيهْ
والرّسالة الأدبيّة واضحة وهي حثّ للشّعراء على حفظ القديم الفاخر واجتناب التّفريط به أو إهماله..ينتقل الشّاعر من وصف الدّاء إلى البحث عن دواء فيقول بنبرة التّمنّي:
متى يُزْهِرُ الوردُ فينا متى
وَقدْ جفَّتِ العينُ فَالساقِيهْ؟
هي الحالُ شاهِدۃٌ أَنَّنا
قطيعٌ يَسيرُ إلى الْهاوِيهْ
جیاعٌ عراةٌ بلا نَخوةٍ
أَنَنْتَظِرُ الضربةَ القاضِیهْ؟
أنظر بلاغة التّصوير فالإحساس "ورد مزهر"
والقريحة "عين" والطّاقة الإبداعيّة "ساقية"
أنظر تشبيهه للعامّة مجتمعا عامّا ومجتمعا شعريّا "بالقطيع" وهو تشبيه علمي نفسي فعلم النّفس يحذّر من خطورة الإنقياد لمنطق القطيع والأكثريّة mob psychology على حساب الرّؤية الشّخصيّة أي إهمال الذّات والوعي الذّاتي وهو هدر لقيمة وطاقات فرديّة ذات جودة من شأنها إحداث ثورات في شتّى الميادين مجتمعنا أحوج ما يكون إليها .
بأسلوب التّساؤل الإستنكاري السّخرية حتّى التّهكم يتابع شاعرنا في رصد الحال ويبلغ الذروة في اليأس عند تساؤله:
"أننتظر الضّربة القاضية؟"
وكلمة القاضية تتّصل إتّصالا مرادفا مباشرا بكلمة الهالكة وهي توحي بضربات الله للأقوام البائدة المؤتفكة كقوم عاد لوط وثمود وهو كلّه يصبّ في الوحدة المعنويّة والتّسلسل المنطقي في السّرد ويضاف لقدرة وبراعة شاعرنا في السّبك الشّعري الرّاقي.وأما الخاتمة فهي ختم جماليّ معنويّ يزيّن زند القصيد فيقول:
هي الْأرضُ ضاقتْ بِما رَحُبَتْ
أتى السّامِرِيُّ ؛ عَتا ثانيهْ
نعم شاعرنا يختتم قصيدته بنبرة سوداويّة وتشاؤم فبرأيه أنّ الحال سيبقى على رداءته والأرض برحابتها تضيق على روح يائسة عالمة بالحقيقة زاهدة بأسباب المظاهر الكاذبة والإيمان الزّائف لا بل فسيكرّر التّاريخ نفسه ويعود "سامريّ" معاصر جديد ويصبّ قوالب عجول ذهبيّة تستعبد عقول الرّعناء كما صبّ في سيناء السّامري عجولا من ذهب ليعبدها أتباع موسى فيبتعدوا عن دينه.هنا في البيت الأخير جاء التّناصّ القرآني مرّة أخيرة في ذكر السّامريّ في آية ٨٥ من سورة طه:قال فأنّا قد فتنّا قومك من بعدك وأضلّهم السّامريّ:صدق الله العظيم.نعم هي الفتن كما قال شاعرنا تغزو الأحلام وتقتل القصيد وتضلّ الآنام.
من الإجحاف بمكان أن ننهي القراءة دون ثناء أخير على أسلوب الشّاعر ألذي آتّبعه في القصيد فقد توفّق في اختيار الصّورة المناسبة للموضوع حين استند على التّناصّ القرآني بما فيه من صدق وغزارة معلومات وعمق معنى ممّا يعطينا شعورا باستمراريّة ما كان من تاريخ وثقافة وربطه بالإبداع الأدبي الحاضر لأنّ هذا الرّفد والرّبط بين القرآن والقصيد الذي خلق آبداعا وأدبا آخرا وتفسيرا آخرا للواقع جعل من النّصّ مصدرا ثقافيا تربويا ثريّا مُهمّا كم نحن كقرّاء في حاجة ماسّة إليه
التعليقات على الموضوع