*عزة وإباء*بقلم الروائية، فاطمة يوسف عبد الرحيم للشاعر "هيثم محمد النسور"

عزة وإباءبقلم الروائية، فاطمة يوسف عبد الرحيم  للشاعر هيثم محمد النسور


*عزة وإباء*

بقلم الروائية، فاطمة يوسف عبد الرحيم :
قراءة في قصيدة الهيثم "دموع الفؤاد"
للشاعر "هيثم محمد النسور" .
هذه قصيدة تنتمي للشعر الوجداني/الغنائي وهو شعر ذاتي والشاعر فيه مستقل بوجوده منقطع إلى عالمه الخاص، سابح في خيالاته مطلق العنان لوجدانه، والتي يعبر فيها عن تجربة شعورية حياتية عاشها وجسدها من خلال مواقف إنسانية، والشاعر في هذه التجربة يخضع لأجواء خلقها لنفسه بمحض اختياره، ولأنها خلاصة من عناصر الفكر والوجدان الذاتي المتصلة بنفسيته وذهنيته وحده، وحين يعرضها على المتلقي يكون هدفه أن يطلعه على تفاعلات وجدانه وليجعل أحاسيسه تتدفق إلى القارئ من خلال العلاقات الجديدة التي تتألف منها لغته وتراكيبه المستحدثة والتي تنبع من فواعل تجربته، وتتضح عملية الخلق الفني فيها حين يسمو بوجدانه ليخلق عالما خياليا يعبر فيه عن نفسه تعبيرا يشعر فيه بالحرية والسيادة المطلقة.
نجد في القصيدة موضوعات ذات عناصر داخلية تقوم على التضاد والحركة والنمو والتصاعد، إذ ابتكر الشاعر تقنيات لبناء النظم على أساس ثنائي هندسي، بين ما كان حاله السعيد وبين واقعه المؤلم. وفي ثنائية لغوية أخرى استخدم علاقة التضاد المعنوي في شكل تماثل إيقاعي بين لفظين: (مُـسَـالِــمٍ وَمُــعَــاد/ أكثر-وأقلِ).
قال بدر شاكر السياب: "إن الصورة عنصر مهم في بناء القصيدة فضلاً عن كونها الشكل الراقي للغة الانفعالية والعاطفية"، وكذلك عرف الجاحظ الشعر:"صناعة من النسج وجنس من التصوير". ويقال أن التشبيه البليغ هو "إخراج الأغمض إلى الأوضح"، واستخدام الصورة كأداة انفعالية ظهرت في الشعر العمودي والشعر الحر لتدل على ثورة المدلولات الانفعالية والنفسية، فالتصوير ضرب من ضروب البيان ولأن أصل التصوير هو التشبيه المكون من طرفين، مشبه ومشيه به، وأداة التشبيه تفصل بين الصورة الواقعية والصورة التخييلية.
في هذه الغنائية تجلت حيوية النظم حين بادر الشاعر إلى تكوين صورة مشهدية من خلال حوارية مؤثرة بين الزمن والشاعر:
وَيقولُ: أَنْـتَ مَـنِ ازدَرى، فأَجَـبـتُـهُ
يَـا دَهـــرُ مَــعــذِرَةً فَــأَنــتَ تُــعَــادِي
مِـنْ مَـجْـدِ مَـاضٍ قَدْ بَـلَـغْـتُ مَـكَـانـةً
لَــكِــنَّ دَهْـــرِي صَــكَّ فِـــي الْإِسْــدَادِ
لقد قدم شاعرنا المبدع صورته بلغة شديدة الكثافة، لما فيها من شحنة انفعالية كبيرة، لتظهر التعبير عن يأس الشاعر وإحباطه من هذا العالم الذي ظلمه في مواقف كثيرة، وكما يقال في فن السرد ترك لنا بياضا دلاليا لنتخيل كيف"عاداه الزمن !" ولو تابعنا إنتاج الشاعر لوجدنا تركيزه على تقلبات الأحوال الإنسانيّة وأثرها النفسي عليه.
من سمات الشعر الوجداني أن يلجأ الشاعر إلى الخيال لأن الشعر عنده لغة العاطفة والوجدان والخيال، ويتحلى هذا الشعر بالصور الشعريَّة الممتدة وبالتعبير الغني بالإيحاء والألفاظ الحيَّة التي تنبض بالرقة والعذوبة. ونجد في القصيدة الوجدانيَّة الوحدة العضويّة، حيث تسود وحدة المقطع لا وحدة البيت، فتكون وحدة الجو النفسي للقصيدة متناسقة مع مواقفها.
وَبِـخِلْـسَـةٍ كَـشَـفَ الْـقِـنَـاعَ وغَـلَّـنِــي
خَـطْـبٌ يُــقَــوِّضُ شَــاهِــقَ الْأَطــوَادِ
وَقَــفَ الـزَّمَــانُ بِـرُكْـنِ بَـيْـتِي سَـادِنًـا
يُــثْـنِــي عَــلَـى الْأَعْــيَــانِ وَالْأَجْــوَادِ
مَـهْـمَـا عَــتَـا ظُـلْـمُ الـلَّـيَـالِي جـائِـــرًا
فَـمِـنَ الْــمُــحَــالِ تَـذَلُّـلِـي لِــمُــعَــــادِ
لَـولَا الـلَّـيـالي لَــمْ تُـعَـكِّــرْ صَــفـــوَنَـا
لأَتــتْ بِـفَــيــضِ الـــرِّزقِ لِـلإنْـجَــــادِ
سُــقْــيًـا لِأَيَّـــامٍ، لِــوَفْـــرَةِ خَــيْــرِنَـــا
لَـمْ تَــسْــتَــحِـلْ نِــيـرَانُــنَـا لِــرَمَـــــادِ
من سمات الشعر الوجداني ظهور ذاتيَّة الشاعر وبوح إحساسه، وفراره من الواقع ولجوئه إلى الطبيعة ومناجاتها، لكن شاعرنا تجنب نوعا ما مناجاة الطبيعة ولجأ إلى التقريرية في بيان التأزم الشعوري والتحليق في عالم الحكمة وعمق الوجدان.
امتازت أفكار الشاعر بالأصالة، لكنه اتخذ المنهج التقليدي في بناء قصائده، رافضا مبدأ التحرر من التقاليد العمودية واتجاهه إلى القافية الأحادية. متغافلا عن مذهب التجريب الحداثي، وملتزما بالتقنيات الداخلية والخارجية للشكل التقليدي.
* ولأن الشعر الوجداني هو تجربة الشاعر المؤلمة، لذا تميز بالصدق، الذي نبع من ذات الشاعر، وجيشان أحاسيسه، للتعبير عن معاناته القاسية، ولقد كان صريحا واضحا ولم يلجأ إلى التستر أو إخفاء مشاعره أو حاله، إنما أفصح عنها بطريقة تلقائية، تعبر عن موقفه الصادق تجاه الظلم مبتعدا عن الزيف والتصنع، والتكلف.
* القصيدة نظمت على البحرالكامل، والتزم بحرف (الدال) كروي في قافية القصيدة، لما لهذا الحرف من قلقلة عند التسكين في علم التجويد ربما قصد حالة القلق النفسي الذي يعاني منه.
* اعتمد الشاعر في تراكيبه اللغوية على الانزياح التركيبي، ووضحت إيقاعية النص من اعتماده على حركة الأفعال في التركيب النحوي (أَشْـقَــيـتَــنِـي وَأَذَقْــتَـنِـي)
غلب الجانب الذاتي للشاعر في القصيدة، وذلك من خلال مشاعره، وأحاسيسه الخاصة، وكذلك من خلال مشاعر الآخرين، وأحاسيسهم. وظهر هنا ترفعه عن الابتذال في الشتم والرد على حساده
لَـولَا الْحَـيَـاءُ شَـتَمـتُ كُلَّ بـِـطَـانَـتِـي
حَيْثُ اسْــتَــبَــانَ بِــأَنَّــهُــمْ حُـسَّـادِي
شَــهِــدَ الـزَّمـانُ لِـسُــؤْدُدِي وَرَشَــادِي في هذا البيت جعل الشاعر الزمان الذي يقع فيه الحدث شخصه حين جعله شاهدا على تسيده وحكمته
الحكمة غرض من أغراض الشعر، لأنها تنطوي على أفكار إيجابية بأسلوب سلس، وتهدف إلى الاقتداء بسلوك الخير ونبذ الشر، ويجمع شعر الحكمة بين دقة التشبيه والإيجاز وقوة الألفاظ وروعة التعبير، وينتج عن تجربة طويلة وخبرة من مجريات الأحداث، وشعر الحكمة ليس غرضًا يقصَد بذاته ولكنه يخترق سياق تجربة حياتية قاسية، ولقد خلت أن الشاعر هنا يجاري بآرائه وصوره الفنية أشهر شعراء الحكمة العرب: زهير بن أبي سلمى.
وَبِـخِلْـسَـةٍ كَـشَـفَ الْـقِـنَـاعَ وغَـلَّـنِــي
خَـطْـبٌ يُــقَــوِّضُ شَــاهِــقَ الْأَطــوَادِ
واتبع الشاعر أسلوب التصوير المشهدي التمثيلي ليبين تحول حاله من ثراء الى فقر
ولأن الشعر الوجداني من الأشعار الغنائية، لذا يتصف إيقاعه بحس طربي عالٍ، بالإضافة إلى العاطفة الجياشة، وهو من الأشعار المحببة للمتلقين، لأنه لا يهدف إلى تحقيق أي مصالح (كالتكسب قديما) سوى إظهار مشاعر ذات الشاعر. لذا فهو يتميز بحس وجداني عالٍ، مما أثرى القصيدة بالمعاني الذاتية، لذا نقبل ما أطلق عليه في هذه الحقبة اسم "الشعر الانفعالي"؛ وذلك بسبب تمرد الشعراء على الأوضاع الاجتماعية، ونتيجةً لتجاربهم الشخصية، والتي بدئت بالوقوف على الأطلال مرورا بتجارب وجدانية متبانية لديهم في فترات زمنية متتالية، وكلها تميل إلى الإغراق في الذاتية، والترفع عن ملذات الحياة،
ونرى أن هذه القصيدة تميزت بالشفافية، وانعدام التكلف، والابتعاد عن التصنع، لأنها نابعة من أحساس صادق وبعيدة عن أية أغراض أخرى، وقد أظهرت قدرة الشاعر على التعبير عن خلجات نفسه بشكل صادق وشفاف.
و نلاحظ التزام الشاعر بمفردات الفخر التقليدية سواء أكانت المقارنة على المستوى الصوتي أم على المستوى الدلالي.
استخدم الشاعر صورة تراثية أسطورية حين شبه قوة نظره مثل نظر زرقاء اليمامة التي لها حكَـاية مشهورة في التراث العربي، وكذلك استخدم ما يسمى التناص الديني حين أشار إلى حال تشبه النبي يعقوب عليه السلام حين ابيضت عيناه وهو كظيم (غَــدَتْ مُــقَـلًا بِـــدُونِ سَــوَادِ) وكذلك استخدم لفظا قرآنيا (الخصاصة /سورة الحشر)
كَانَتْ كَـزَرقَــاءِ الْــيَـمَـامَـةِ نَـظْـرَتِــي
حَــتَّـى غَــدَتْ مُــقَـلًا بِـــدُونِ سَــوَادِ
رَغْـمَ الْـخَـصَاصِ فَنَحْنُ دُومًا نَحتَفي
بِـــضِـــيـــافَــةِ الــــزُّوَّارِ وَالْـــعُـــــوَّادِ
* استخدم الشاعر بلاغة الكناية في الانزياح البلاغي وقصد التحرر من البخل
لَا تَـكـتَـنِـزْ مَــالًا وَجُــدْ بِـسَـمَـاحَـــــةٍ
لَا نَـفـعَ لِـلْـصَّـمــصَـامِ فِـي الْأَغــمَـــادِ
* ثيمة القصيد الطاغية هي اعتزازه بصفة الكرم وعزة النفس والإباء حين عرضهم في أكثر من صورة.
كَــفُّ الـكَـريـمِ نَـدىً يَـفِـيضُ كَـمَنهَـلٍ
يُـــسْــدي بِـــلَا ضَـــنٍّ إلــى الْـــــوُرَّادِ
رَغْـمَ الْـخَـصَاصِ فَنَحْنُ دُومًا نَحتَفي
بِـــضِـــيـــافَــةِ الــــزُّوَّارِ وَالْـــعُـــــوَّادِ
وَقَــفَ الـزَّمَــانُ بِـرُكْـنِ بَـيْـتِي سَـادِنًـا
يُــثْـنِــي عَــلَـى الْأَعْــيَــانِ وَالْأَجْــوَادِ
حَـسْـبُ الْـكَـرِيـمِ فَـأَصــلَــهُ مُــتَـفـرِّعٌ
عَـــن خِـــيـــرَةِ الْآبــــاءِ وَالْأَجْــــــدَادِ
لَـوْ لاذَ مَـــعْــســـورٌ بِــوَرفِ ظِــلَالِـــهِ
يَـلْــقَــى جَــزيـلَ الــبِـــرِّ وَالْإِرفَــــــادِ
* بدت إيمانيات الشاعر بدينه جلية حين لم ييأس من رحمة الله
يَـا طَـالِـبًـا سُـبُـلَ الْـهُـدَى، قُــرآنُـــنَـــا
لِـجَـمِـيـعِ مَـنْ ضَـلَّ الْـعَـقِــيـدَةَ هَـــاد
لاتَـخْشَ مِـن عَـوَزٍ وَعُـسـرِ مَـعـيـشَــة
فَـالـنَّـمـلُ يُـؤْتَـى الـرِّزقَ فِـي الْأَصْـلَا

بقلم الروائية، فاطمة يوسف عبد الرحيم :


ليست هناك تعليقات