رِسالًةٌ إِلى العالَمِ الآخَرِ...بقلم/عبير محمود أبو عيد

 

بقلم/عبير محمود أبو عيد


رِسالًةٌ إِلى العالَمِ الآخَرِ.

قصة قصيرة القدس-وادِ الجوز يَستَيقِظُ العَمُّ أَحمَدُ كُلَّ يَومٍ وَيُصَلّي قِيامَ اللَّيلِ في بَيتِهِ الصَّغيرِوَيُسرِعُ إِلى المَسجِدِ الأَقصى لَصَلاةِ الفَجْرِ فيهِ. يَسكُنُ في الطَّرَفِ الجَنوبِيِّ مِنْ مَقبَرَةِ اليوسُفِيَّةِ القَريبَةِ مِنْ بابِ الأَسباطِ. هُوَ حارِسُ المَقْبَرَةِ مُنذُ أَكثَرَ مِنْ أَربَعينَ سَنَةٍ. لا أَحَدَ يَعلَمُ عَنهُ شَيئًا سِوى أَنَّهُ حارِسٌ لِلمَقبَرَةِ, وَأَنَّهُ العَمُّ أَحمَدُ فَقَطْ. في أَحَدِ أَيّامِ شَهرِ تَمّوزَ الحارَّ وَاللّاهِبَ, وَبَعدَ أَنْ صَلّى العَصرَ في المَسجِدِ الأَقصى, رَجَعَ إِلى بَيتِهِ وَعَمِلَ لِنَفسِهِ كوبًا مِنَ الشّايِ وَجَلَسَ يَشرَبُهُ بِالقُربِ مِن بابِ بَيتِهِ. رَأَى فَتاةً تَحمِلُ باقَةً كَبيرَةً مِنَ الوَردِ الجورِيِّ الأَحمَرِفي يَدٍ وَصُندوقٍ صَغيرٍ في اليَدِ الأُخرى. وَعِندَما وَصَلَتْ إِلى أَحَدِ القُبورِ أَخَذَتْ تَبكي بُكاءً حارًّا يُقَطِّعُ القَلبَ. وَبَعدَ أَنْ أَنهَكَها التَّعَبُ مِنْ كَثرَةِ البُكاءِ, قَرَأَتْ ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرآنِ الكَريمِ وَوَضَعَتِ الصُّندوقَ وباقَةَ الوَردِ عَلى القَبرِ وَقَفَلَتْ راجِعَةً مِنْ حَيثُ أَتَتْ. وَاعتادَتِ الفَتاةُ في الحادي عَشَرَ مِنْ شَهرِ تَموزَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ أَنْ تَأْتِيَ لِلقَبرِ وَتَفعَلَ ما تَفعًلَهُ كُلَّ سَنَةٍ. وَكانَ العَمُّ أَحمَدُ يَأْخُذُ الصُّندوقَ وَيَضَعُهُ في بَيتِهِ. وَكانَ يُريدُ أَنْ يَعرِفَ ما في الصُّندوقِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَجرُؤْ أَنْ يَفتَحَ أَيَّ صُندوقٍ وَلا أَنْ يَتَحَدَّثَ مَعَ هذِهِ الفَتاةِ غَريبَةِ الأَطوارِ. - اليومَ هُوَ الحادي عَشَرَ مِنْ تَموزَ, وَاليَوْمَ الفَتاةُ سَتَأْتي بِالتّأكيدِ بَعدَ صَلاةِ العَصرِ. عَلَيَّ أَنْ أَتَشَجَّعَ وَأَتَجَرَّأَ وَأَتَكَلَّمَ مَعَها لِأَعرِفَ قِصَّةَ هذا الصُّندوقِ الّذي تَضَعُهُ عَلى القَبرِ. وَبِالفِعلِ جاءَتِ الفَتاةُ بَعدَ صَلاةِ العَصرِبِقَليلٍ, وَكانَتْ تَحمِلُ باقَةَ الوَرْدِ الجورِيِّ الأَحمَرَ وَالصُّندوقَ الصَّغيرَ. وَلَكِنْ هذِهِ المَرَّةَ كانَتْ تَمشي بِبُطءٍ شَديدٍ مُتَّكِئَةً عَلى عَصًا. أَسرَعَ العَمُّ أَبو أَحمَدٍ نَحوَها وَقالَ لَها : - السَّلامُ عَلَيكُمْ يا ابنَتي. أَربَعَ عَشرَةَ سَنَةٍ مَروا وَكَأَنَّهُ أَمسُ. اسمَحي لي أَنْ أُعَرِّفَكِ بِنَفسي : أَنا العَمُّ أَحمَدُ وَأَعمَلُ حارِسًا لِهذِهِ المَقبَرَةِ وَهذا بَيتي. - وَعَلَيكُمُ السَّلامُ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ يا عَمَّ أَحمَدَ. اليَومَ هُوَ الذِّكرى السَّنَوِيَّةَ الخامِسَةَ عَشرَةَ لِوَفاةِ أُمّي. كانَتْ تُحِبُّ الوَردَ الجورِيَّ الأَحمَرَ لِذا أَضَعُهُ عَلى قَبرِها. وَأَمّا هذا الصُندوقُ الصَّغيرُ, فَلَقَدْ تَعَوَّدْتُ كُلَّ سَنَةٍ أَنْ أَكتُبَ لَها رِسالَةً إِلى العالَمِ الآخَرِ وأَضَعُها في صُندوقٍ صَغيرٍ وَأَضَعُهُ عَلى قَبرِها. وِبَدَأَتِ الفَتاةُ بِالبُكاءِ وَهذِهِ المَرَّةُ بِدُموعٍ حارِقَةٍ وَبِصَوتٍ عالٍ جِدًّا. - ما بِكِ يا ابنَتي؟ وَحِدّي اللهَ فَلا شَيءَ يَستَحِقُ وَالدُّنيا دارُ الفَناءِ وَالآخِرَةُ دارُ البَقاءِ. - يا عمُّ أَحمدُ, في كُلِّ سَنَةٍ أَمُرُّ بِظُروفٍ صَعبَةٍ, وَلكِنْ هَذِهِ السَّنَةُ أَمُرُّ بِظُروفٍ صَعبَةٍ وَقاسِيَةٍ جِدًا وَما عُدتُ أَحتَمِلُ. وَباءُ الكورونا من جِهَةٍ وَمَرَضي مِنْ جِهَةٍ أُخرى, حَيثُ أُعاني مِنْ خَشونَةٍ في رُكبَتي اليُمنى. وَكَي تَزيدَ تَعاسَتي, تَمَّ فَصلي مِنْ عَمَلي كَمُمَرِّضَةٍ وَهُوَ الظُّلمُ بِعَينِهِ. فَأَنا أَحِبُّ العَمَلَ وَالعَمَلُ عِبادَةٌ, كَما أُحِبُّ مِهنَتي كَثيرًا. جِئتُ أَشكو لِأُمّي الغالِيَةِ الظُّلمَ الّذي أَعيشُهُ, فَما عادَتِ الدُّنيا تَضحَكُ لي. أَعيشُ الوِحدَةَ بِكُلِّ تَفاصيلِها, وَالنّاسُ لا تَترُكني بِحالي. آهٍ يا عَمَّ أَحمَدٍ الدُّنيا كُلُّها أَجِدها سَوادًا في سَوادٍ. الجَميعُ تَخَلّى عَنّي, حَتّى أَقرَبُ النّاسِ لي. أَرى المَوتَ يَقتَرِبُ مِنّي, وَكَمْ تَشتاقُ نَفسي لِحُضنِ أُمّي وَكَلامُها الشّافي وَحَديثُها الحُلوُ. - أَنا مِثلُكِ يا ابنَتي, فَأَولادي وَبَناتي تَقاتَلوا عَلى الميراثِ بَعدَ وَفاةِ زَوجَتي, فَلَقَدْ كَتَبتُ البَيتَ الكَبيرَ الّذي كُنّا نَسكُنُهُ بِاسمِها. هُمْ أَخَذوا كُلَّ شَيءٍ بَعدَ أَنْ باعوا البَيتَ والأَثاثَ وَرَمَوني في الشَّارِعِ وقالوا عَنّي مَجنونٌ وَخَرفانُ. جِئتُ إِلى هُنا وَأَعمَلُ حارِسًا لِلقُبورِ, وَهُنا أَجِدُ الرّاحَةَ النَّفسِيَّةَ وَأَشكو هَمّي لِلَهِ تَعالى وإِلَيهِمْ. - يا عَمُّ أَحمَدُ, إِنّي أَحسِدُكَ, فَأَنتَ خالِيُ البالِ وَمُرتاحٌ مِنَ المَشاكِلِ وَالهُمومِ. كَمْ أَتَمَنّى العَيشَ هُنا مَعَكَ وَمَعَ الأَمواتِ حَيثُ الرّاحَةُ النَّفْسِيَّةُ الّتي بِتُّ أَفتَقِدها مُذ رَحيلِ أُمّي الغالِيَةِ. وَمَشَتِ الفَتاةُ نَحوَ قَبرِ أُمِّها وَوَضَعَتْ باقَةَ الوَردِ الجورِيِّ الأَحمَرَ مَعَ الصُّندوقِ الصَّغيرِعَلى القَبرِ وَقَرَأَتْ ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرآنِ الكَريمِ وَقَفَلَتْ راجِعَةً إِلى البَيتْ. وَفي صَباحِ اليَومِ الثّاني, أَخَذَ العًمُّ أَحمَدُ الصُّندوقَ الصَّغيرَ لِيَضَعَهُ مَعَ بَقِيَّةِ الصَّناديقِ في بَيتِهِ.

متابعة/لطيفة القاضي

بقلم/عبير محمود أبو عيد


ليست هناك تعليقات