عرينٌ وَأسدٌ.. رؤيةٌ أسلوبيةٌ وقراءةٌ في شعرِ شيحانُ القصيدِ للشاعر هيثم النسور للناقدة نافلة العامر

 

نافلةَ مرزوقٍ العامرِ



        عرينٌ وَأسدٌ

          شعرٌ ونقدٌ

رؤيةٌ أسلوبيةٌ وقراءةٌ في شعرِ

           "شيحانُ القصيدِ"

الشَّاعرِ هيثم النسور

تأليفُ

نافلةَ مرزوقٍ العامرِ

الإهداء

أهديه لزوجي العزيز الداعم والسند محمد عامر 

أبنائي الأعزاء

شادي شذى نور

أختي الغالية على قلبي

هناء علي مرزوق

لوالد زوجي الشيخ  التقي صالح أحمد العامر

لروح والدة زوجي الشيخة أم محمد تميمة 

لروح أبي

لروح أمي

ولأبناء شعبي العربي الشرفاء


تمهيد  

ترافقَتِ الإنسانيَّةُ منذُ البدءِ معَ الإبداعِ , وكانَ الإبداعُ شرطَ استمرارِها , ومقياسَ حضارتِها , وبصمةَ تاريخِها.

لمَّا رأيتُ ما داهمَ أمَّتَنا منْ بلاءٍ وكوارثَ  بعدَ ما أسمَوهُ "الرَّبيعُ العربيُّ" , لجأْتُ  إلى قراءةِ الشِّعرِ خاصَّةً الشِّعرَ الأُمَوِيَّ  والعبَّاسيَّ , أقرؤُهُ بشغفٍ باحثةً فيهِ عنْ عزاءٍ وتسليةٍ , لِما كانَ لنَا نحنُ -العربَ- منْ ماضٍ ماجدٍ , وشعرٍ تليدٍ , ومجدٍ عريضٍ .

وهأنا وأنا أقلِّبُ صفحاتِ التَّاريخِ والجرائدَ الرَّائدةَ , صادفْتُ شاعراً مُحدَثاً جذبَ فكرِي , ولفتَ نظرِي , وأدهشَنِي.

إنَّهُ الشَّاعرُ النِّحريرُ المجيدُ هيثمُ النُّسورُ , أو كما لقَّبْتُهُ "شيحانُ" , وما أدراكَ منْ شيحانُ...إنَّهُ الحَولِيُّ كزهيرٍ , الحريصُ في الحذرِ , الجادُّ , ويكفي أنَّهُ على وزنِ "قرآنٌ" وهو لما في الكلمةِ منْ قيمةٍ مضاعفةٍ وأكثرَ فهوَ المُثنَّى في الإبداع ِ, وليدُ هواجسِ الغربةِ وعشقِ الوطنِ , ووليدُ قريحةٍ فولاذيةٍ لا تساومُ في قيمةِ الشِّعرِ, الشِّعرِ الَّذي وهبَ مُتَنفَّساً لمفرداتٍ خنقَها غبارُ الإبداعِ الضَّحلِ والقوافي المثقلةُ بهمومِ بيتٍ ينوءُ عجزُهُ عنْ حملِ همومِ صدرِهِ ..هوَ شيحانُ القصيدِ المتسلسلُ منْ تراثِ زهيرٍ والمُتَنبِّي والمَنفلوطيِّ وجهابذةِ الإبداعِ في الشِّعرِ الإنسانيِّ العربيِّ العالميِّ المُتَألِّقِ في آفاقِ الجمالِ والفكرِ الشَّاهقَينِ..

لمَّا رأيْتُ بعضاً منْ قصائدِ "شيحانُ القصيدِ" الشَّاعرِ الأريبِ , تيقَّنْتُ منْ وجودِ شاعرٍ ، شاعرٍ مطبوعٍ حُفِرَتْ في شغافِ حروفِهِ هُوِيَّةُ القارضِ الفذِّ , القارضِ المسافرِ على أجنحةِ عنقاءِ الشِّعرِ الأصيلِ , المُمتدِّ عمرُها منْ أشعارِ الجاهليَّةِ مروراً بالشِّعرِ الأمويِّ فالعبَّاسيِّ إلى يومِنا هذا . جَليٌّ وواضحٌ تأثُّرُ شاعرِنا بالشِّعرِ العبَّاسيِّ , أكانَ في الشَّكلِ أمْ بالمعجمِ أمْ بالغرضِ .هذا التأثُّرُ لمْ يمنعْ شاعرَنا منْ حقنِ أشعارِهِ بمظاهرِ الثقافةِ  وجوهرِ الحداثةِ , فجاءتِ العَصرنةُ في شعرِهِ إضافةً وتجديداً.

 صبغَ شعرَهُ بصبغةِ الحاضرِ , وأثرى الحرفَ بثقافةِ الموجودِ , فطغَتِ اللمسةُ الشّيحانيَّةُ , وصكَّتِ الهُويِّةَ الشّيحانيَّةَ الحَداثويَّةَ .

هذا الكتابُ ، جاءَ ليلقيَ الضَّوءَ على جوانبِ الهويَّةِ الشِّعريةِ لشاعرِنا النِّحريرِ, ويبرزَ نواحيَ تميُّزِهِ منْ جهةٍ , وأصالتَهُ وتأثُّرَهُ بالقديمِ منْ أخرى , ليُخلَصَ إلى استنتاجٍ مفادُهُ أنَّ شاعرَنا قدْ نجحَ في ابتكارِ خطابٍ شعريٍّ خاصٍّ بهِ (Idiolect) لمْ يسبقْهُ إليهِ أحدٌ , فيكونَ قدْ أضافَ لثقافتِنا ومكتبتِنا الشِّعريَّةِ لوناً آخرَ منْ ألوانِ طيفِهِ المُتعدِّدةِ والمُتنوِّعةِ.



المقدمة 

              منهجية الشاعر 


هِزَبرٌ يرعى عرينَ حروفٍ ملوكيةٍ سامقةٍ تناطحُ قممَ الإبداعِ الشِّعريِّ الفذِّ , فكأنَّ سقفَ السَّماءِ مِشجَبٌ لحروفِهِ يعلِّقُها فتضيءُ منْ طاقتِها , وتزهو فتتناثرُ هنا وهناكَ نيازكُ فولاذيةٌ , لتسقطَ شهباً تنيرُ دروبَ الفكرِ والحسِّ

منْ كانَ في طلبِ العُلا مُتَوَجِّساً

فَمَكانُه تحتَ التُّرابِ لَأصْوَبُ

 نعمْ... شهبٌ تتجسَّدُ في قالبٍ شعريٍّ ذي معجمٍ ثرٍّ فذٍّ بمفرداتٍ  استجمعَها وانتقاها بحنكةِ وحذرٍ وإتقانٍ منْ تنُّورِ الضَّادِ  الماخرِ عبرَ الأزمانِ , حاملاً وناقلاً إرثَها أمانةً للآتي .

إنَّ شاعرَنا يعِي عبْءَ المسؤوليَّةِ , ويتقبَّلُهُ بحبٍّ جمٍّ وثقةٍ استثنائيَّةٍ وهوَ القائلُ:

توارت النُّجْمُ منْ بدرِ الكوانينِ

تشعُّ أنوارَهُ    بينَ        الأفانينِ

بعدَ التسلّقِ على سلالمِ حروفِهِ الَّتي حُفِرَتْ على جدرانِ الشِّعرِ الأصيلِ , وجدْتُ أنَّهُ وبحقٍّ(وإنْ لمْ يصرِّحْ هوَ بذلكَ في البيت ِأعلاهُ) بدرٌ في سماءِ القريضِ , عندَ حضورِهِ تتوارى أنوارُ النُّجومِ , وبينَ أغصانِ قصائدِهِ تتغلغلُ أضواءٌ تنيرُ سماواتِ  الشِّعرِ وأعماقَ النُّفوسِ والعقولِ .

تأثُّرُهُ بالشِّعرِ العبَّاسيِّ -وخاصَّةً المتنبِّي- جليٌّ وواضحٌ , لكنَّ شاعرَنا حفرَ بصمتَهُ الفنِّيَّةَ الخاصَّةَ مبتكراً أسلوباً جماليّاً لا يخلو منِ انزياحٍ وانحرافٍ عنِ المعيارِ , فجاءَ نظماً ونسقاً بألوانٍ وقريضٍ لمْ نعهدْهُ منْ قبلُ ولمّا نقرأْهُ بعدُ

!تماماً كولدٍ شابهَ أباهُ لكنَّهُ كانَ منْهُ أجملَ!

شابهَ أباهُ شكلاً , لكنَّهُ واكبَ سماتِ جيلِهِ وعصرِهِ

 ليبقى ويكونَ! 

سطورُهُ ذاتُ أسلوبٍ مُبتكَرٍ وفكرٍ مُعاصِرٍ ما فارقَتِ الأصولَ , بل ازدانَتْ بحاضرِها لتتجنَّبَ الأفولَ , فكانَ إلى الخلودِ الوصولُ

لا غيَّبَ اللهُ الأحبَّةَ طالَما

غربَتْ شموسٌ أوْ أتاها المَطلَعُ.

ولمَّا كانَ الإبداعُ حاجةً إنسانيَّةً وجوديَّةً نابعةً منْ موهبةٍ وفطرةٍ وجبَ تشجيعُها وتنميتُها , مِنْ هُنا كانَ الدَّافعُ لكتابةِ هذا الكتابِ , فهوَ لفتةٌ تكريميَّةٌ تقديريَّةٌ لقريحةٍ مميَّزَةٍ نَدرَ أمثالُها في وقتِنا هذا.

سَنخوضُ في هذا الكتابِ بِقراءةٍ أُسلوبيَّةٍ في شعرِ مَنْ لقَّبْتُهُ ب "شيحانُ القصيد " هيثمٍ النُّسورِ , وبالتَّحديدِ سنُحلِّلُ حروفَهُ مِنْ منظارٍ لغوِيٍّ أدبِيٍّ.

Linguistic-Literary   Analysis

سوفَ نتطرَّقُ لشعرِ هيثمٍ مِنْ منظورٍ أسلوبيٍّ في أربعةِ فصولٍ كلُّ فصلٍ بُنيَ على استنباطِ المفهومِ الأسلوبيِّ المختبئِ في نصوصِهِ شارحينَ ذلكَ في سياقٍ أدبيٍّ يتطرَّقُ لمواضعِ الأصالةِ ومواقعِ التَّجديدِ في كلِّ نصٍّ .

في الفصلِ الأوَّلِ وهوَ بعنوانِ "أصالةٌ وتجديدٌ" سنتطرَّقُ إلى "المستوى الدلاليِّ "ورصدِ الدَّلالاتِ المتضمَّنةِ في النَّصِّ ونبحثُ تركيبةَ الجملِ الأساسيّةِ والعلاقةَ الجدليَّةَ بينَ مفرداتِها وكيفيّةَ تعاونِها لكسبِ أقوى شحنةٍ معنويَّةٍ يريدُ الشَّاعرُ إيصالَها للقارئِ.

في الفصلِ الثَّاني وهوَ بعنوانِ "أزمةُ الشَّاعرِ , معاناتُه وشعرُ الحنينِ" سنتطرَّقُ إلى المفهومِ الأسلوبيِّ "المشكلةُ والحلُّproblem -solution” على المستوى التركيبيِّ للجملةِ ونتطرَّقُ لمعاناةِ الشَّاعرِ في الغربةِ وكيفَ أنبتَتْ هذهِ المعاناةُ شاعراً باسقاً يُشارُ إليْهِ بِالبَنانِ.

في الفصلِ الثَّالثِ وهوَ بعنوانِ" شيحانُ القصيدِ والمتنبِّي في شعرِ الحكمةِ" سنتطرَّقُ للمفهومِ الأسلوبيِّ في فنِّ "البلاغةِ الإقناعيَّةِPersuasive Rhetoric”  مِنْ خلالِ تحليلِ قصيدةِ "وصيَّتِي "وهيَ في شعرِ الحكمةِ الَّذي تتجلَّى فيهِ تناصَّاتٌ وتأثُّراتٌ منَ الشِّعرِ العبَّاسيِّ معَ لمسةٍ ابتكاريَّةٍ تجديديَّةٍ مِنْ شاعرِنا الشَّامخِ.

في الفصلِ الرَّابعِ وهوَ بعنوانِ "ملحمتُه نبوغُه وتألُّقُهُ في وصفِ سلطانِ الأوصابِ" سنتطرَّقُ إلى مفهومَي الاختيارِ word choice , والانزياحِ Deviation ونتطرَّقُ إلى بؤرٍ مباركةٍ في إبداعٍ تجديديٍّ يثبتُ دونَ شكٍّ أنَّ الهيثمَ هوَ شاعرٌ مُحدَثٌ لا يزيحُ عنْ أصالةِ الإبداعِ ولا يكتفي بأقلَّ مِنْ إضافةٍ تؤهِّلُهُ للقبِ شاعرٍ كبيرٍ أو "شيحانُ القصيدِ"

في الفصل الخامسِ سأتطرَّقُ لوطنيَّاتِ شاعرِنا في تحليلٍ وقراءاتٍ  حرَّةٍ لقصائدِهِ الوطنيَّةِ في المهجرِ وما بعدَ العودةِ وسنرى أنَّ الاختلافَ الوحيدَ في توجُّهِ الشَّاعرِ كانَ في الموضوعِ زمانِهِ ومكانِهِ أمَّا باقي عناصرِ القصيدِ فلمْ يطرأْ عليها أيُّ تغييرٍ ,وسيكون ملحقاً مختصراً يعرضُ لشعرِ شاعرِنا الغزليِّ الوجدانيِّ وهوَ جدّاً مقلٌّ في هذا الغرضِ الشِّعريِّ لكنَّنِي ارتأيْتُ شملَهُ في الكتابِ لسببينِ الأولِّ روعةِ القصيدِ والثاني تبيانِ قدراتِ الشَّاعرِ في هذهِ النَّاحيةِ الشِّعريَّةِ وإنْ كُنَّا ننتظرُ منْهُ الكثيرَ الكثيرَ مُستقبلاً إنْ قدَّرَ اللهُ تعالى.

وفي النِّهايةِ الخاتمةُ فيها نختصرُ رحلتَنا معَ الهيثمِ  في خلاصةٍ ترسمُ أبعادَ شخصيَّتِه الشِّعريَّةِ لنثبتَ أنَّ شاعرَنا قدْ خَلقَ حديثاً شخصيّاً مُمَيَّزاً يُميِّزُهُ عنْ غيرِهِ منَ الشُّعراءِ فإنْ قرأْتَ بيتاً تعلمُ مِنْ ملامحِهِ وأسلوبِهِ  أحاسيسُك وأفكارُك مَنْ هوَ  أبوهُ فتشيرُ إلى هيثمٍ دونَ غيرِهِ.

وقدْ وجدْتُ أنَّهُ منَ المناسبِ إلحاقُ نثريَّةٍ يتيمةٍ للهيثمِ لمَا فيها منْ معلوماتٍ قدْ تُعينُ القارئَ على فهمِ خلفيَّةِ وشخصيَّةِ الشَّاعرِ وتفهُّمِ  موقفِ النَّاقدِ .

نعمْ .... لقدْ وجدْتُ بعدَ قراءتِي لإبداعِ شاعرِنا الرَّاقي أنَّ المنظورَ الأسلوبيَّ هوَ أفضلُ ما يكونُ لفهمِ شعرِهِ وشخصيَّتِهِ الإبداعيَّةِ كما سيثبتُ معَنا.

إذاً فنحن بصددِ   الأسلوبيَّةِ stylistics*  في شعرِ شيحانَ بمرافقةِ عاملَيْنِ مهمَّيْنِ في صَنعتِهِ الإبداعيَّةِ يُلازمانِهِ ملازمةَ الظِّلِّ للجسدِ ألا وَهُما 

أوَّلاً "الأصالةُ" المُتمثِّلَةُ في التَّأثُّرِ بالفنِّ الشِّعريِّ العبَّاسيِّ , وثانياً "المعاصرةُ " المُتَجسِّدةُ في ثقافةِ شاعرِنا المعاصرةِ المستقاةِ مِنْ واقعِهِ وخبراتِهِ وتجاربِهِ الحياتيَّةِ , أصالةٌ ومعاصرةٌ لا تنفصمانِ سكبَهُما بأسلوبٍ جديدٍ تركيباً صوتاً ودلالةً ويبرزُ في حروفِهِ وما بينَ حروفِهِ وما يتعدَّاها ناقلاً خبرةَ حياتِهِ  في مختلَفِ نواحيها وجوانبِها وستكشفُ لنا رحلتُنا الأسلوبيَّةُ معَ شاعرِنا النِّحريرِ أنَّهُ مبدعٌ مُحدَثٌ استطاعَ بموهبتِهِ المطبوعةِ أنْ يرتقيَ إلى مراتبِ الشِّعرِ القُصوى مثبِتاً جدارتَهُ بلقبِ "الشَّاعرِ"

ليجدَ مكانَهُ بينَ عمالقةِ الشِّعرِ العَربيِّ على مرِّ الأزمانِ.

 شيحانُ القصيدِ أو تلميذُ المتنبِّي المحدَثُ نعمْ ! فتبرُّكاً باللقبِ الغائرِ في أنفاقِ المجدِ ! وتقديراً لكلمةٍ رفعَتْ مِنْ مرتبةِ الشِّعرِ وأجَّجَتْ قيمتَهُ وتأثيرَهُ في النَّاسِ! واعترافاً بجهدٍ مباركٍ لشاعرٍ هوَ أميرُ المعاني المزهرةِ على أفنانِ البلاغةِ والفكرِ الفذِّ .

شاعرُ الكلمةِ المغموسةِ بعبقِ الشِّعرِ العبَّاسيِّ المعمَّدةِ بفكرِ الحداثةِ المتوَّجةِ بأسلوبٍ حداثويٍّ فريدٍ ومميَّزٍ.

برأيي فإنَّ شاعرَنا بلغتِهِ المتنبَّويَّةِ هوَ الشَّاعرُ العبَّاسيُّ المُحدثُ وحاملُ إرثِهِ بأمانةِ شاعرٍ مُريدٍ قدْ ملكَ  أبياتَهُ الزَّائرةَ بقوَّةِ الحرفِ ومتانةِ السَّبكِ.

هوَ مطبوعٌ ينبثقُ منهُ شعاعُ القصيدِ كانبعاثِ الزَّأرةِ من فكِّ الهيثمِ.

*مَرجعُنا العِلميُّ المُعتَمَدُ سَيَكونُ كتابَLanguage ,Discourse and Literature                             An introductory Reader  In  Discourse Stylistics                   Edited by                                    

 Ronald Carter                               Paul Simpson



الفصلُ الأوَّلُ 


                    أصالةٌ وتجديدٌ


ويرفُدُنا حرفُهُ بزخَّاتٍ مِنْ مسكٍ في أوانِ سعارِ وظمأِ النُّفوسِ والعقولِ للشِّعرِ الأصيلِ.

 نعمْ...يأبى شاعرُنا إلَّا أنْ يغذِّيَ فضولَنا بأبياتٍ رنَّانةٍ ترفُدُنا بعبقِ الماضي كأنَّها قناةٌ  تربطُ بحرَينِ.

هيثمُ شاعرٌ مطبوعٌ قدْ استلمَ قيثارةَ الشِّعرِ العربيِّ الأصيلِ على تنوُّعِ خصائصِهِ  فابتكرَ لحناً شعريّاً أسطوريّاً خاصّاً بِهِ مقوِّماتُهُ تشملُ متانةَ السَّبكِ ، معجماً لغويّاً ثرّاً، بل وغريباً وعتيقاً عتقَ الأهراماتِ ، وعمقَ الفلسفةِ والفكرِ إضافةً إلى تميُّزٍ في الأسلوبِ  الفنِّيِّ الجماليِّ اللغويِّ مِنْ حيثُ العلاقةُ اللغويَّةُ والمعنويَّةُ في شريحةِ الكلامِ الأساسيَّةِ segment فهوَ إجمالاً في تناصٍّ Intertextuality غيرِ منقطعٍ معَ القديمِ مِنَ الشِّعرِ بالذَّاتِ العبَّاسيِّ بمعنى أنَّهُ إبداعٌ متنقِّلٌ  ما بينَ مطابقٍ ومجاورٍ للبيادرِ الإبداعيَّةِ العبَّاسيَّةِ  تحديداً "المتنبويَّة "معَ إضافةِ نكهةِ المواضيعِ العصريَّةِ والحديثِ المعاصرِ والخلاصةُ عصيرُ شعرٍ أنيقٍ بهيٍّ  ماؤُهُ أشبهُ بزرقةِ محيطٍ صافيةٍ رقراقةٍ أفقُها لا تصلُهُ غشاوةُ تطفُّلٍ ولا قباحةُ رتابةٍ واجترارٍ.

في قصيدتِهِ الرَّائعةِ "عتابُ الدَّهرِ" وهيَ على البسيطِ التَّامِّ يعاتبُ شاعرُنا المُعذَّبُ دهرَهُ والدَّهرُ هُنا بمعنى الخطوبِ وليسَ اللهَ كما جاءَ مرَّةً في حديثٍ شريفٍ ,  يعاتبُ ولكنْ ليسَ قبلَ أنْ يعرِّفَ نفسَهُ أوليسَ هوَ امتداداً ثقافيّاً شعريّاً لازماً وضرورةً لأنفةِ المتنبِّي وإبائِهِ واعتدادِهِ بنفسِهِ  وهوَ القائلُ :

الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفُنِي

والسّيفُ والرُّمحُ والقرطاسُ والقلمُ 001

مقابلةً لهذا الشُّموخِ والثِّقةِ المُفرِطةِ بالنَّفسِ يقولُ شيحانُ :

توارَتِ النُّجْمُ مِنْ بدرِ الكوانينِ

تُشِعُّ أنوارُهُ بينَ       الأفانينِ

هوَ ذاتُهُ المعنى والجوهرُ هوَ  هوَ ذاتُهُ.

 الأسلوبُ جزالةُ خطابٍ , تكثيفٌ رهيبٌ للمعاني وأبعادُ حديثٍ متعدِّدةٍ  وبراعةٌ استثنائيَّةٌ في اختيارِ المفرداتِ والرَّبطِ ما بينَها فقدْ جمعَ شاعرُنا في هذا البيتِ "السَّماوِيِّ" مكاناً مُجلَّداً مِنَ المعاني , وكانَ الأسلوبُ المزجُ بينَ سُموِّ المعجمِ الكلاميِّ ورحابةِ المَرمى والمعنى وهوَ القائلُ في جملةٍ وصفيَّةٍ تصريحيَّةٍ منبعُها ثقةٌ لا تتزعزعُ في قدراتِهِ واعتدادٌ بموهبتِهِ الإبداعيَّةِ


"توارَتِ النُّجْم مِنْ بدرِ الكوانينِ"


لماذا بدرُ الكوانينِ ؟ لأنَّهُ جمالٌ صارخٌ ودفءٌ حانٍ ! فهل أعذبُ مِنْ مشهدِ البدرِ في شتاءٍ قارسٍ سماؤُهُ صافيَةٌ؟

لماذا كوانينُ ؟ لأنَّ ساحتَنا الشِّعريَّةَ تَفتقِرُ إلى دفْءِ الإبداعِ الرَّاقي والعطاءِ وها هوَ النَّجمُ الرَّاعي المَوهوبُ والوَاهبُ  قدْ حطَّ في حُلكةٍ افتُقِدَ فيها القمرُ برهةً فهوَ بدرُ شعرٍ اختفَتْ ساعةَ حضورِهِ النُّجومُ الصَّغيرةُ خجلاً وضعفاً وأكثرُ فإنَّهُ وبمرونةِ نورِ حرفِهِ وانسيابيَّتِهِ وبثقافتِهِ الفذَّةِ قدِ اخترقَ أفنانَ الشَّجرِ على صورِ السُّطورِ واخترقَ أساليبَ  الشِّعرِ الحاضرةَ والماضيةَ بفنٍّ وفنيَّةٍ مختلفةٍ لتُشِعَّ نوراً مِنْ نوعٍ آخرَ وكيفَ لا وهوَ القائلُ :

  

 أهيمُ بينَ مَتاهاتِ الهوى وَلِهًا

        

    لعلَّها مِنْ دُجى الظَّلماءِ تُنْقِذُنِي


في رائعتِهِ "أنتِ الملاذُ"


   

الجوُّ وطنيٌّ , المزاجُ ثائرٌ , الرُّوح محاربةٌ

هكذا هوَ الشِّعرُ الأصيلُ يجذبُكَ حتَّى تُفَتْفِتَ بنيةَ البيتِ شريحةً شريحةً وجملةً جملةً ومُفرَدةً مُفرًدةً وحرفاً حرفاً ثمَّ تعيدَ تركيبَهُ فتجدَ وطناُ قدْ بزغَ في فضاءِ المعاني والحياةِ.

وهُنا تسحرُنا قدرةُ الشَّاعرِ وتمكُّنُهُ مِنْ تكوينِ علاقةٍ تعاونيَّةٍ بينَ حروفِ ومفرداتِ وجملِ وشرائحِ البيتِ لتصبَّ شعراً متيناً متماسكاً هادفاً بإيقاعٍ مثملٍ ورصينٍ في آنٍ وهوَ ما يُسمَّى عندَنا البلاغةَ في الجزالةِ عامَّةً cohesion  and coherence.

كيفَ حصلَ كلُّ هذا التألُّقِ!

خذِ الصَّدرَ المتدفِّقَ بهاءاتِ الهوى والآهاتِ بينَ هيامٍ هوَ ذروةُ العشقِ في متاهاتِهِ وضياعِ الشَّاعرِ الولِهِ فيها بغيةَ إيجادِ مرسًى لروحِهِ المتعبَةِ مِنَ الهمومِ همومِ "النَّفسِ الكبيرةِ" ..ثمَّ انظرِ القفزةَ في العجزِ حيثُ تقسو هاءُ الهوى فتغدو دالَّ الدُّجى وكيف يصبحُ الهوى ظلماءَ.

 انظرْ رهافةَ "أهيمُ" وصلابَةَ "ينقذُنِي"..

نعمْ فبعدَ تفكيكِ المفرداتِ الدَّالةِ على ليونةِ الحلمِ ننتقلُ في العجزِ إلى قساوةِ واقعِ "دجى الظلماءِ" الَّتي يأملُ شاعرُنا بالتَّخلصِ منْها عنْ طريقِ الغوصِ في سراديبِ الحبِّ .الرِّسالةُ هنا أقوى ممَّا ذكرَ , الرِّسالةُ لا تقلُّ عنْ رسالةِ المتنبِّي  في قوله:

وإذا كانتِ النُّفوسُ كباراً

تعبَتْ في مُرادِها الأجسامُ

لا غروَ فشاعرُنا مُتأثِّرٌ بالشِّعرِ العبَّاسيِّ حدَّ النُّخاعِ!

بنظرةٍ أسلوبيَّةٍ لبيتِ شاعرِنا المُحدَثِ النَّابضِ بأوجاعِ أمَّتِهِ( كونُ نفسِهِ تحملُ أعباءَ أمَّتِنا الفاقدةِ مجدَها في الوهنِ الحاصلِ على أرضِ الواقعِ) نلمسُ براعةَ البلاغةِ واستثنائيَّةَ المعجمِ اللغويِّ وحنكةَ السَّبكِ في المزجِ بينِ الهوى واليأسِ ومرارةِ الواقعِ وهذا كلُّه بالإضافةِ إلى تميُّزِهِ بالقريضِ الإيقاعيِّ دونَ هناتٍ أوْ كسورٍ وبانسيابيَّةٍ مُلفتةٍ يبرهنُ على بصمةٍ شعريَّةٍ] خاصَّةٍ حفرَتْ رسمَها في روحِ الشِّعرِ الأصيلِ المعاصرِ ليرتقيَ شاعرُنا هزبرُ الحرفِ الزَّائِرِ إلى مصافِّ الشُّعراءِ ونرجعَ للدِّفءِ لأنَّ ظهورَ الهيثمِ هوَ بمثابةِ مجيءِ

دفءٍ ونورٍ شعريٍّ برزَ في فترةٍ عزَّ فيها الشِّعرُ العموديُّ الرَّاقي وغابَ دفؤُهُ ويحضرُنِي هُنا  شعرُ الكبيرِ تينيسون Tennyson في رائعتِهِ The eagle

حيثُ قالَ

The wrinkled sea beneath him

Crawls

He watches from his mountain walks

And like a thunderbolt he falls

بترجمتي

       النَّسرُ

البحرُ بتجاعيدِهِ 

يزحفُ مِنْ تحتِهِ

وهوَ يراقبُهُ

مِنْ على قمَّةِ الجبلِ

 وكصعقِ البرقِ ينقضُّ نحوَهُ


وهكذا هوَ شاعرُنا باشقٌ متردِّدٌ يحفظُ بحورَ الشِّعرِ ومِنْ أعاليهِ الفكريَّةِ ينتظرُ اللحظةَ والمكانَ المناسبَينِ لينقضَّ على الكلمةِ والمفردةِ المناسبةِ  ليحشرَها في أنسبِ مكانٍ مِنْ شريحةِ الكلامِ بحيثُ تنسجمُ معنًى وشكلاً معَ البيتِ والقصيدةِ كَكُلٍّ وكمْ هيَ مثيرةٌ الاشتقاقاتُ الَّتي ينتقيها وكمْ هيَ مثيرةٌ المفرداتُ المنسيَّةُ المتينةُ والعتيقةُ الباهرةُ السَّاحرةُ والفاخرةُ الَّتي يرتَئِي شاعرُنا زجَّها في النَّصِّ الشِّعريِّ .هوَ باختصارٍ شاعرُ "البناءِ "فالقريضُ عندَهُ التَّردُّدُ والصَّبر أوليسَ هوَ شيحانُ وشيحانُ  إلى حدٍّ ما هوَ الصَّبورُ المتأنِّي المترَدِّدُ وحتَّى المُوَسوِسُ حتَّى اختيارِ الكلمةِ تردُّدَ السَّباكِ في الصَّقلِ وتردُّدَ القاضي في الحكمِ تردُّدٌ يصلُ حدَّ "الوَسوَسةِ" "Obsession" .

 شاعرُنا يعِي عبءَ الرِّسالةِ الشِّعريَّةِ ويعيشُ بعضَ خوفٍ مِنَ الفشلِ ويسعى للكمالِ شكلاً ومعنًى وكأنَّهُ لا يرضى لنفسِهِ وللقارِئِ أقلَّ مِنْهُ.

الأمثلةُ كثيرةٌ على مدى مسافاتِ إبداعِهِ. الأمثلةُ كثيرةٌ ومتعدِّدَةٌ خذْ مثلاً مِنْ قصيدةِ "أوَّاهُ" كلمةَ "بعاث" 

من قصيدة "سأظعنُ للعراقِ" كلمتَي "ساجٍ" و"انتزاحِي" ومِنْ "أطلتُ غيابي" كلمةَ "هداهِدي" بدلالَتِها التَّاريخيَّةِ ومعناها العميقِ في المعجزِ في جلبِ الأخبارِ .

أسلوبيّاً شاعرُنا يُعتبَرُ أميراً في علمِ المعاني يتألَّقُ في الجزالةِ والخطابِ وسنثبِتُ ذلك لاحقاً مِنْ خلالِ تحليلِ قصائِدِهِ العصماءِ.

ما دُمنا في البلاغةِ فما أبلغَهُ شاعرُنا الَّذي ينظرُ إلى حالِهِ في الدُّنيا يتأمَّلُ  ويتأمَّلُ وبانقضاضِ نسرٍ يقتنِصُ أبلغَ الكلامِ وأعسلَهُ هوَ انقضاضٌ  فيهِ ما فيهِ مِنْ رقَّةِ في الشَّكوى وتذلُّلٍ في العتابِ والتذلَّلُ للهِ عزٌّ ما بعدَهُ عزٌّ , انقضاضٌ  يستبطِنُ نقداً جارحاً وتقريعاً وتذمُّراً مُرّاً ولكنْ حاشا وكلَّا مِنْ أنْ يظهرَهُمُ الشَّاعرُ , انظرْ قولَهُ:

 فكمْ تمنَّيتُ مِنْ دهرِي مُهَادَنَتِي

لكنَّهُ لمْ يَشَأْ يوماً يُرَاعِينِي


مرَّةً أخرى حرصٌ استثنائيٌّ في انتقاءِ المُفرَدةِ والأسلوبِ.

لإيصالِ رغبتِهِ في المهادنةِ طرحَ شاعرُنا تذمُّرَهُ بشكلٍ غيرِ مباشرٍ off record  نعمْ أسلوبٌ التوائيٌّ فيهِ مِنَ التَّهذيبِ شأنٌ عظيمٌ مبيَّناً حكمةَ الشَّاعرِ الإنسانِ في أنسنةٍ  غريبةٍ فهيَ  كمنَ يمشي على رؤوسِ أناملِهِ خشيَةَ إيقاظِ الدَّهرِ أوِ القدرِ ذلك السُّلطانِ الغاضبِ  العابسِ أبداً في وجهِهِ لا يُراعي ولا يُهادِنُ !وهلْ أحكمُ مِنَ اجتنابِ الغضبِ؟ وهلْ أفضلُ وسيلةٍ في هكذا ظرفٍ مِنَ الاسترضاءِ ؟ 

بأسلوبِهِ الالتوائيِّ هذا توخَّى شاعرُنا الحذرَ حيثُ لا ينفعُ هُنا سوى أخذِ الحيطةِ واجتنابِ الاستفزازِ .تبلغُ أسلوبيَّتُهُ التَّعبيريَّةُ في هذا البيتِ ذروَتَها اللغوِيَّةَ والمعنويَّةَ تحديداً مسارُهُ الكلاميُّ المتفرِّعُ ما بينَ التَّنازلِ وخيبةِ التَّوقُّعِ أوْ ما يُسمَّى concession and contra-expectation

نعمْ التَّنازلُ في التَّوسلِ والتَّمنِّي والخيبةُ في ممانعَةِ الدَّهرِ مِنْ مُهادَنَتِهِ.

لا شكَّ أنَّ خطابَ شاعرِنا كلاميٌّ بلاغيٌّ عبَّاسيٌّ يعتمدُ على بناءٍ لغويٍّ صُلبٍ جزلٍ وبيانٍ ساحرٍ في غلافٍ مجازيٍّ ملفتٍ يُؤَنسِنُ الدَّهر ويُحاورُهُ ويُعاتبُهُ قدْ يكونُ كلُّ ذلكَ مِنَ الأصالةِ تأثُّراً  لكنْ هيهاتَ  فشاعرُنا يضيفُ عليهِ نشاطاً خطابيّاً ذاتيّاً أوَّلاً بابتكارِهِ لهذهِ الصُّورةِ  الشِّعريَّةِ وثانياً بسكبِ خفاياهُ النَّفسيَّةِ ومشاعرِهِ العميقةِ في أسلوبِ توجُّهٍ قلَّ مثيلُهُ حنكةً ودبلوماسيَّةً ويحضرُنِي هُنا قولُ عالمةِ الأسلوبيَّةِ والمبدعَةِ العالميَّةِ "جوليا كريستيفا" أنَّ أيَّ نصٍّ أدبيٍّ لمْ يأتِ مِنَ العدمِ بلْ مِنْ نصوصٍ سبقَتْ لينطلقَ المبدعُ المتأثِّرُ بما في جعبتِهِ رابطاً وطامحاً  في اختراعِ إنتاجٍ أكثرَ جودةٍ وأكثرَ صلةٍ بواقعِهِ الذي يحياهُ صانعاً لذاتِهِ بصمةً شخصيَّةً وهويَّةً إبداعيَّةً خاصَّةً.

شاعرُنا يوازِنُ بينَ الأصالةِ والتَّجديدِ ليكوِّنَ جسراً ثقافيّاً تاريخيّاً بينَ ما كانَ وما سَيكونُ .قدْ نلتبسُ أحياناً في هويَّةِ القائِلِ لكنْ سرعانَ ما نميِّزُ بصمةَ الهيثمِ , خذْ مثالاً في التَّشابُهِ بينَ المِعرِّيِّ والهيثمِ

حيثُ قالَ الأوَّلُ :

ولمَّا رأيتُ الجهلَ في النَّاسِ فاشياً

تجاهلْتُ حتَّى قِيلَ جاهلٌ

وقالَ الأخيرُ:

أَعْـرِضْ عَـنِ الْـغَــدَّارِ إِنْ شَـارَكْـتَـهُ

 يَـحْتَـالُ أَوْ يَـسْطُوْ عَلَيْكَ وَيَسْلِـبُ


"متعاليةُ التَّناصِّ" باهرةٌ وتشابهُ الأفكارِ والتَّوجُّهِ واضحٌ , فكمْ يشبِهُ تجاهلُ الجاهلِ المتضمِّنُ جناساً وطباقاً(تجاهلٌ قريبٌ للحكمةِ عكسَ الجهلِ) الإعراضَ عنِ الغدَّارِ عندَ الهيثمِ فعندَ المِعَرِّيِّ الإعراضُ عنِ الخطرِ  هوَ حكمةُ تصرُّفٍ حيالَ جهلِ وغدرِ البعضِ  وعندَ الهيثمِ هوَ فرضٌ ومطلبٌ هذا من قبيلِ التَّقاطعِ والتَّشابُهِ معَ القديمِ وأمَّا في التَّجديدِ فلا شكَّ أنَّ الهيثمَ بما عاناه في حياتِهِ  مِنِ اغترابٍ وعزلةٍ عنِ الوطنِ يُقدِّمُ خلاصةَ تجربتِهِ المريرةِ للنَّشءِ مُحذِّراً مِنَ الوقوعِ في فكِّ الغدَّارِ بالإضافةِ إلى اللمسةِ البراغماتيَّةِ العمليَّةِ في التَّعبيرِ التَّصريحيِّ التَّقريريِّ الخالي مِنْ كلِّ مجازٍ يذكرُ كونَ الموضوعِ لا يخرجُ عنِ الجدِّيَّةِ والخطرِ المُحدقِ .غنيٌّ عنِ التَّنويهِ ومعروفٌ لدى الجميعِ اهتمامُ شعراءِ العصرِ العبَّاسيِّ بشعرِ الحكمةِ التَّعليميِّ ومراعاتِهِم لمتطلباتِ التَّربيةِ الاجتماعيَّةِ وعزمُهُم على إرشادِ النَّشءِ وتربيتِهِ عنْ طريقِ الأدبِ والشِّعرِ. وما زلنا في التَّجديدِ  والأصالةِ فلا شكَّ أنَّ هناكَ تشابهاً ظاهريّاً في الغرضِ الشِّعريِّ والسَّبكِ  ما بينَ الهيثمِ والشِّعرِ العبَّاسيِّ  لكنْ هنالِكَ  اختلافٌ  في الأسلوبِ الكلاميِّ لغرضِ العصرنةِ   وانزياحٌ خطابيٌّ لخدمةِ اللمسةِ الفنِّيَّةِ الجماليَّةِ الَّتي تعزِّزُ الجودةَ الشعريَّةَ وتثبِتُ اللمسةَ الشخصيَّةَ للمبدعِ انظرْ مثلاً  قولَ المتنبِّي في هجاءِ كافورَ الإخشيديِّ:

مَنْ علَّمَ الأسودَ المَخصيَّ مَكرُمةً

أَقومُهُ البيضُ أم آباؤُهُ الصِّيدُ ؟

في المقابلِ يقولُ الهيثمُ في مدحِ الملكِ في معلَّقتِهِ الغرَّاءِ "منارةُ العدلِ"


أجدادُكَ الشُّوسُ يا مولايَ خرَّ لهمْ

أكاسرُ الفرسِ والرُّومانِ كالخدَمِ


لاحظْ تفضيلَهُ كلمةَ شوسٍ على الصِّيدِ ليخلقَ تفاضلاً إبداعيّاً  لا يلغي تكاملاً تاريخيّاً ثقافيّاً في قريضٍ مِنْ أجملِ ما صكَّتْهُ العربُ.

نرجعُ ونُؤَكِّدُ أنَّ شعرَ الهيثمِ بما فيهِ مِنْ فخامةِ معجمٍ ومفرداتٍ ومتانةِ سبكٍ  وعظمةِ إنشاءٍ لغويٍّ يفرضُ عندَ تحليلِهِ اللجوءَ إلى المنهجِ الأسلوبيِّ stylistics الَّذي يشملُ فيهِ تحليلَ الخطابِ أوْ ما يُسمَّى Discourse Analysis.في قصيدتِهِ الباذخةِ شجناً والنَّازفةِ رقَّةً وحنيناً   "أوَّاهُ" يقولُ :

لا غيَّبَ اللهُ الأحبَّةَ طالمَا

غربَتْ شموسٌ أوْ أتاهَا المطلعُ

وأقولُ لنْ تغيبَ الأحبَّةُ القدماءُ بلْ سيبزغونَ مِنْ جديدٍ معَ بزوغِ شمسِكَ وأمثالِكَ...الهيثمُ في الأصالةِ يجدِّدُ عهداً لإرثِ الفكرِ والشِّعرِ العبَّاسيِّ الرَّاقي ويختمُهُ ببصمةِ عصرنةٍ بحبٍّ ووفاءٍ إلى الآتي تحتضِنُهُ وتحملُهُ على أجنحةِ التَّميُّزِ.


الفصلُ الثَّاني


      أزمةُ الشَّاعرِ معاناتُهُ وشعرُ الحنينِ


هوَ شاعرُ الحنينِ بلا منازعٍ .نعمْ لقدْ عصرَ حنينُهُ إلى الوطنِ قلبَهُ أضناهُ وأرَّقَ مضاجعَهُ ولكنَّهُ أيضاً أينعَ معلَّقاتِهِ وأجَّجَ مفرداتِهِ فجاءَ بالشِّعرِ الخالِدِ .وكما يُقالُ فإنَّ المعاناةَ  هيَ رحمُ الإبداعِ وكمْ عانى شاعرُنا في غربتِهِ وكمْ أبدعَ حتَّى طغى نورُ شعرِهِ على أنوارِ النُّجومٍ .

في رائعتِهِ "أوَّاهُ" يقولُ :

نامَ الخَليُّ ومهجتِي لا تهجَعُ

وذرفْتُ حتَّى جفَّ منِّي المَدمَعُ

لمَّا تمكَّنَتْ براثنُ البينِ مِنْ قلبِ الشَّاعرِ ساحَ القصيدُ معَ دماءِ معاناتِهِ

فغدتْ روحُهُ الغضَّةُ المشتاقةُ لوطنِهِ حدَّ المرضِ تربةً خصبةً للإبداعِ وفيها تجذَّرتِ الآلامُ في صدرِهِ فتشكَّلتْ وتبلْوَرَتْ شخصيَّتُهُ المعزولةُ عزلةَ الوطنِ وعزلةَ الاعتزالِ لينتقلَ إلى أفقِ العطاءِ والفكرِ  وبزغَ الشَّاعرُ الفيلسوفُ الَّذي جعلَ من خيالِهِ خطوطاً مِنْ ذهبٍ تنسجُ أبرعَ الأشعارِ انظرْ قولَهُ في قصيدةِ "أنتِ الملاذُ":

أطلقْتَ سهمَكَ في صَدري يُمَزِّقُهُ

حتَّى تجذَّرَتِ الآلامُ في بَدَنِي


شاعرُنا مأزومٌ.


انظرْ قولَهُ في "الرَّمقِ الأخيرِ"


أَشكُو إلى اللهِ طولَ السُّهدِ والأرقِ

قدْ مسَّنِي الضُّرُّ بالإنْهاكِ والرَّهَقِ


يقولُ John Milton الشَّاعرُ الضَّريرُ والمُنهكُ مِنْ غربةِ اللامرئِيِّ أيْ سجنِ العمى في ملحمتِهِ Paradise Lost

   الفردوسُ المفقودُ

"Still paying

Still to owe

Eternal woe"

أي "لا زلتُ أدفعُ الثَّمنَ

وسأبقى مديوناً

إنَّهُ الحزنُ السَّرمديُّ"

للتَّنويهِ الفقدانُ عندَ ميلتون فقدانُ بصرٍ وجنَّةِ حياةٍ وآخرةٍ موعودةٍ وعندَ الهيثمِ هوَ  فقدانُ الوطنِ والاستقرارِ الجسديِّ والنَّفسيِّ.

نعمْ.. لقدِ التقى القطبانِ فشاعرانا يرزحانِ تحتَ نيرِ الغربةِ والعزلةِ كلٌّ في اتِّجاهٍ ويبقى المفعولُ واحداً.

لا زلنا في مسارِ النَّقدِ  الثُّلاثيِّ الجامعِ ما بينَ : أوَّلاً التأثُّرِ بالأصالةِ المُتمثِّلِ في تشابهِ  خصائصِ شعرِهِ وبعضِ مواضيعِها بالشِّعرِ العبَّاسيِّ  وثانياً اللمسةِ الشَّخصيَّةِ المتجسِّدَةِ في نقلِ وسكبِ تجاربِهِ همومِهِ ونفسيَّتِهِ وما تطوي في قوالبَ شعريَّةٍ

هيَ حُلَّةٌ لغويَّةٌ مجازيَّةٌ بهيَّةٌ قشيبةٌ وثالثاً أسلوبُهُ الخطابيُّ اللغويُّ الخاصُّ وهوَ منحًى أدبيٌّ لغويٌّ ناشئٌ عنْ أسلوبٍ محدثٍ مبتكَرٍ تميَّزَ بهِ شاعرُنا وقدْ وجدَ صداهُ في ظواهرَ أسلوبيَّةٍ أثبتَتْ قدرتَهُ الفذَّةَ في الإبداعِ , كما سنشرحُ فيما يلي.

سنتناولُ في قصيدتِهِ" الرَّمقُ الأخيرُ" نظرةَ العالمِ اللغويِّ Hoey المتمثِّلةِ في مفهومِ المشكلةِ والحلِّ

Problem-Solution

ونلاحقُ تطبيقَ هذا المفهومِ في قصيدتِهِ المذكورةِ.

ونرجعُ إلى بيتِ الهيثمِ في الشَّكوى  المذكورِ أعلاهُ ونقولُ : نعمْ .. شاعرُنا مأزومٌ ومصَفَّدٌ في حبالِ الغربةِ ولكنْ هيهاتَ فقدْ قبضَ بيدٍ على الهمومٍ وبأخرى حملَ النُّجومَ فأحالَ الوجومَ بسحرِ الحرفِ فرحاً مرسوماً  كبرياءً وشموخاً لا بلْ انتصاراً ومفازةً ولا غروَ فعلى أكتافِ قريضِهِ حطَّ غبارُ النُّجومِ مفجِّراً أكواناً بديعةً مِنَ الشِّعرِ لمْ نعهدْها مِنْ قبلُ اللهمَّ إلَّا كواكباً تدورُ في أفلاكِ أباطرةِ الشِّعرِ وسلاطينِهِ .

في البيتِ أعلاهُ نجدُ شاعرَنا مصرِّحاً بأزمتِهِ شاكياً قلقَهُ  توجُّسَهُ وسُهدَهُ "للهِ" تعالى فهوَ عندَ الأزماتِ يلوذُ إلى رحمتِهِ  كيفَ لا وهوَ المسلمُ الورِعُ مقيمُ الصَّلواتِ وهيَ سلاحُهُ وإيمانَهُ !كيفَ لا وهوَ يقتدي بأيُّوبَ عليهِ السَّلامُ حينَ لجأَ بخجلٍ إلى الباري طالباً رحمتَهُ حيثُ قالَ "مسَّنيَ الضُّرُّ " كلُّ ذلكَ دونَ  طلبٍ مباشرٍ عتابٍ أو تثريبٍ لأنَّهُ بدرجةِ إيمانهِ تتعالى نفسُهُ عنِ  الشَّكوى العاديَّةِ التّطفُّليَّةِ الخاليةِ مِنَ التَّهذيبِ , (وطبعاً درجةُ الإيمانِ ما بينَ الهيثمِ وأيُّوبَ تختلفُ فالأخيرُ نبيٌّ صالحٌ عظيمٌ) , ومِنْ معرفةِ اللهِ وتبجيلِهِ والخاليةِ منْ صدقِ العقيدةِ إذاً فهيَ شكوى راقيةٌ مهذَّبةٌ .

مِنْ هُنا نَرى أنَّ أسلوبَ شاعرِنا كانَ طرحُ مشكلةِ الشَّكوى والعجزِ  وكانَ الحلُّ بالالتجاءِ إلى الإيمانِ بمعنًى آخرَ.

شاعرُنا اشتكى مسَّ الضُّرِّ في العجزِ , فشكى إلى اللهِ طولَ السُّهدِ والأرقِ .مثالٌ آخرُ على ظاهرةِ المشكلةِ والحلِّ عندما يستطردُ شاعرُنا في نفسِ القصيدةِ قائلاً :


وَيَا نَسِيمَ الصَّبَا بلِّغْ ذَوِي رَحِمِي

أنِّي عَوَانٌ كمَا المَأسورِ في نَفَقِ

أَخْفَيْتُ فِي الصَّدْرِ مَا رَقَّ الحَدِيدُ لَهُ

مُصَفَّدٌ مَعْ أسَى الأَقْدارِ  في رَبَقِ

  

لقدِ اختارَ شاعرُنا قافيةَ القافِ رُبَّما لتنقلَ ثقلَ الإحساسِ وعبءَ الغربةِ , ذلكَ العبءَ الَّذي  يَشْعُرُهُ وكأنَّهُ مَحْبوسٌ في نفقٍ لا نهايةَ لَهُ.

لغتُهُ راقيةٌ متينةٌ  مفرداتُها دررُ الضَّادِ ولؤلؤُ حرفِها في الحسِّ يبرقُ والفكرُ يشعلُ ويصنعُ الشِّعرَ وأيَّ شعرٍ !

التَّصويرُ ساحرٌ خارقٌ ومجازُهُ يجيزُ للحرفِ تليينَ الحديدِ , فقدْ حملَ شاعرُنا في قلبِهِ لهيبَ شوقٍ يذيبُ المعادنَ  وألماً يرِقُّ لهُ الحجرُ . نعمْ مأزومٌ شاعرُنا لكنَّهُ بقوَّةِ تحمُّلِهِ يطوي الشَّكوى ويُخفيها في القلبِ وهنا يأتي الحلُّ فقدْ لجأَ  الشَّاعرُ  إلى تشخيصِ الحديدِ ليؤكِّدَ عمقَ ورطتِهِ  فهوَ رهينةُ قسوةِ الأقدارِ , وما استعارةُ الأصفادِ إلا تكثيفٌ لصرخةٍ مكتومةٍ يُرادُ بها تعريفُنا  شدَّةَ البليَّةِ وعِظمَ المُصابِ وحجمَ الألمِ الخياليِّ الَّذي يمرُّ بِهِ شاعرُنا . نعمْ , فهوَ المُبتلى أيُّوبُ حاملُ الضُّرِّ والعذابِ فالدَّلالاتُ تاريخيَّةٌ دينيَّةٌ  واللغةُ مجازيَّةٌ تصويريَّةٌ لكنَّ الرُّوحَ معاصرةٌ أبيَّةٌ  فشاعرُنا هوَ المنتصرُ هوَ العنقاءُ المبعوثُ مِنْ رميمِ الرَّمادِ , إنَّهُ شاعرُ المعاصرةِ المرتوي مِنْ بحارِ علمِ النَّفسِ وعصيرِ التَّجاربِ الإنسانيَّةِ إذْ بمجرَّدِ عمليَّةِ الإبداعِ والتَّنفيسِ يكونُ فرجاً فكيفَ لو قرنَهُ بالإيمانِ وبسموِّ العقيدةِ؟ نعمْ شاعرُنا يداوي نفسَهُ بحرفِهِ ويحلُّ أزمتَهُ بشعرِهِ.

لوِ انتقلْنا إلى قصيدةِ "الأمرُ للهِ"

نجدُهُ يقولُ :

الأمْرُ للهِ أُرْهِقْنا مِنَ النِّقَمِ 

عَسَاهُ يَصْرِفُ عَنَّا وَطأّةَ الغُمَمِ


هُنا يَتجلَّى أسلوبُ المشكلةِ والحلِّ لينتصرَ الشَّاعرُ لوجودِهِ  للوجودِ الإنسانيِّ , نعمْ , للفرجِ الّذي يأتي مِنَ

اللهِ .

وما زِلنا في بروجِ الهيثمِ العاجيَّةِ وفي أبياتِهِ العسجديَّةِ ولوحاتِه الاستثنائيَّةِ فهوَ وبحكمِ اغترابِهِ القسريِّ يُعَدُّ شاعرَ الحنينِ .شاعرُنا  صاحبُ همَّةٍ عزَّةٍ وإباءٍ  , قدْ قالَ المعريُّ:

لا حَظَّ فِي الدُّنْيا لِعَالِي هِمَّةٍ 

والوَحشُ أَفْضَلُ صَيدِها الأعيارُ


وقالَ الهيثمُ :


تَبّاً زَمَانِي صَقْرُهُ مُتَصَفِّدٌ

والبُومُ فِيهِ بِكُلِّ سَاحٍ يَرْتَعُ


سِلسلةُ حروفٍ زمرُّديَّةٍ وكلُّ حلقةٍ مفردةٌ غنيَّةٌ ونغمةٌ بطوليَّةٌ وبصمةٌ نسوريَّةٌ.

"تبّا" قدْ أتَتْ موفَّقةً موافقةً صورةَ القيدِ والقهرِ وصرخةَ ماردٍ متمرِّدٍ. النَّغماتُ صرخاتُ صقرٍ كبَّلَتْهُ الأصفادُ ولجمَتْهُ ظروفُ الواقعِ كيفَ لا والبومُ جبانٌ يسرَحُ في ميادينِ البواشقِ , وأمَّا البصمةُ النّسوريَّةُ فهي اللغويَّةُ متمثِّلةً بمعجمٍ فريدٍ متفرِّدٍ وكلماتٍ تغربَلَتْ وداختْ حتى أفقْنا عليها طربينَ وأمَّا المعنويَّةُ  فهيَ تعابيرُهُ وعمقُ أبعادِها فلمَ البومُ ولمَ الصَّقرُ ولمَ السَّاحةُ ؟.

كلُّ ذلكَ لأنَّ شاعرَنا أغرقَ النَّصَّ بموجاتِ واقعِهِ المتلاطمةِ .الموجِ الَّذي حملَهُ بعيداً عنِ الوطنِ وبعيداً عنِ السَّاحاتِ.

نعمْ , شاعرُنا المتنبَّويّ النَّبْرةِ واللغةِ جاءَ مُحدَثاً معاصراً يحقنُ حروفَهُ بهمومِ يومِهِ ومعاناتِهِ النَّفسيَّةِ ممَّا يرَاهُ ويعيشُهُ. وهلْ همٌّ أقسى مِنْ رؤيةِ شاعرٍ ورافعٍ رايةَ القيمِ والبناءِ لمجتمعِهِ ينهارُ ويضيعُ حينَ تتوارى عنِ السَّاحةِ الرِّجالُ وتبرزُ الأنذالُ.!!

نعمْ وأكثرُ , فإذا رَجعْنا إلى المعرَّيِّ في بيتِهِ أعلاهُ فنقولُ إنَّ شاعرَنا هوَ مِنَ الأخيارِ لمْ يبتسمْ لهُ  زمانُهُ فابتسمَ لهُ الشِّعرُ عاشَ عزلةَ الوطنِ الجغرافيَّةَ وعزلةَ العائلةِ وذوي الرَّحمِ العاطفيَّة  وعزلةَ الشَّاعرِ رهينِ الفكرِ والحسِّ المتميِّزِ الَّذي يجرُّه لعوالمَ ونفسيَّاتٍ  تعرقلُ انخراطَهُ في مجتمعٍ "غريبٍ" عنها فتعيقُ تفاعلَهُ الطَّبيعيَّ .أيُّ عذابٍ هذا وأيَّةُ معاناةٍ ! انظروا قولَهُ في قصيدتِهِ "أطلتُ غيابِي":


لقدْ هَاجَنِي وَجْدٌ ولستُ بِجَاحِدٍ

يُفَتِّتُ قَلْبِي الصَّبَّ عَذْلُ الحَوَاسِدِ


فَأَفْصَحَ جِسمِي عَنْ ضُلوعٍ كأنَّها

حِجَارةُ رَضْفٍ في زَوايا المَواقِدِ


شعرٌ يخترقُ نخاعَ النَّفسِ!

يا لَرهبةِ الموقفِ وقوَّةِ الصُّورةِ ودرجةِ تأثيرِها في القارئِ .تخيَّلُوا حجارةَ  الموقدِ الملتهبةَ كأنَّها حممٌ بركانيَّةٌ متأجِّجةٌ كلُّ هذا اللهيبِ  يشعرُهُ الشَّاعرُ في غربتِهِ وتحملُهُ ضلوعُهُ المُنهكَةُ !

غربتُهُ عنِ الأهلِ قدْ كوَتْ أضلاعَهُ واللحمَ وأذابَتِ العظمَ , ولكنَّها مرَّةً أخرى قدْ أفصحَتْ عنْ قصيدٍ يرهقُ القارئَ الصَّبورَ ويجبرُهُ على سفحِ الدُّموعِ وهلِ الشِّعرُ إلا شعورٌ ومشاعرُ وما هيثمٌ إلَّا ملكُ المشاعرِ الإنسانيَّةِ السَّاميةِ ومنها أغدقَ على الشِّعرِ حروفاً ماسيَّةً صُقِلَتْ بيدِ سبَّاكٍ بارعٍ يعرفُ مِنْ أينَ يغرفُ التِّبرَ وكيفَ يعجنُهُ ويشكِّلُهُ سلسلةً متلألئةً مِنْ عقيقِ الحرفِ . حرفٍ نُسِجَ بأسلوبٍ معاصرٍ ومنهجٍ مميَّزٍ لا ينتهجُهُ سوى مبدعٍ فذٍّ فلا عجبَ أنْ لقبَّهُ البعضُ ب"المتنبي المحدثِ"  فهوَ بالفعلِ أميرُ إمارةٍ وقدْ يتعدَّدُ الأمراءُ  في كلِّ مملكةٍ ولا ريبَ في ذلكَ لكنَّه أميرٌ دونَ شكٍّ ودونَ منازِعٍ.

شاعرُنا في غربتِهِ لا يقِلُّ تغزُّلاً ببلادِهِ عنِ الجواهريِّ المُبعَدِ أيضاً قسراً حينَ حنَّ إلى عراقِهِ إذْ قالَ الهيثمُ :


وَطُفْ بِعَمَّانَ بلِّغْها مَدَى وَلَهِي

يا ليتَنِي كَأْسَ شُؤمِ البَيْنِ لمْ أَذُقِ


وقالَ الجواهريُّ  العملاقُ :

أنا لي دينانِ

دينٌ جامعٌ وعراقِي

وغرامِي فيهِ دينٌ.

نرى بوضوحٍ كيفَ تجمعُهُما مشاعرُ الحنينِ الجارفِ والاشتياقِ الحارقِ للوطنِ

نعمْ , لقدْ شرَّعَ الهيثمُ في وجهِ الغربةِ أسلحةَ إبادةٍ تتمثَّلُ في روحِهِ المُقاتِلَةِ وشعرِهِ المناضلِ .

شعرُهُ كانَ سيفَ إيمانِهِ , وأزمتُهُ تبدَّدَتْ في سطورِ الشَّكوى والتَّنفيسِ , والَّتي أزالَها أيضاً فكرُهُ الإنسانيُّ الرَّاقي وعقيدتُهُ السَّاطعةُ.

قدْ يقولُ البعضُ إنَّهُ توجَّهَ بفكرٍ رومانسيٍّ نحوَ الخيالِ ليتخطَّى مصاعبَ ضائقتِهِ النَّفسيَّةِ , وأنا أقولُ ربَّما يصدقُونَ , لكنَّ شاعرَنا الشَّرقيَّ قدْ جرفَ بمشاعرِهِ الجيَّاشةِ وحرفِهِ المتينِ كلَّ عراقيلِ الغربةِ  كطوفانِ مياهٍ مِنْ سدٍّ انفجرَ لتوِّهِ , وجرفَ كلَّ ما صادفَهُ .

شاعرُنا أسطورَةٌ حطَّمَتْ أسطورةَ الغربةِ وأوجاعَها بواقعيَّتِهِ , وبسيفِ الحرفِ المؤمنِ  إنَّهُ البطلُ المأساويُّ المنتصرُ أبداً رغمَ كلِّ العذابِ والأهوالِ الَّتي يرميهِ بها القدرُ ,وهوَ القائلُ :

أنا الصَّبُورُ عَلَى البَلْوَى إِذَا عَزَفَتْ

أّوْتَارُهَا  نَغَماً يَخْلُو مِنَ النَّغَمِ

مرَّةً أخرى الشَّكوى والحلُّ , الأزمةُ والحلُّ ! شكوى الابتلاءِ يحلُّها الصَّبرُ والإيمانُ العميقُ.

هوَ الصَّبورُ  كلُّ بلوى تعزفُ لحنَها ستعزفُ وتتوارى حتماً مِنْ ساحتِهِ لأجلِ صبرِهِ  وإيمانِهِ العميقَينِ .

شاعرُ الحنينِ أغرقَ الصَّفحاتِ بأبياتِهِ الباكيةِ  حالتَهُ الرَّاثيةِ  بؤسَهُ , انظر إليهِ يقولُ في قصيدةِ "أمرُ الله" :

 أَنِيْنُ الرُّوحِ قَدْ بَلَغَ التَّراقِي..........

 ودَمْعُ العَيْنِ تَنْبُذُهُ المَآقِي.........

في البيتِ نسيجٌ صوتيٌّ ملفتٌ يخلقُ انسجاماً وتوازناً بينَ نهايةِ الصَّدرِ والعجزِ تدبَّانِ في مسامعِ القارئِ لحناً إيقاعيّاً وظيفتُهُ جذبهُ للقراءةِ وتنبيهُهُ لأهميَّةِ الموضوعِ المطروحِ حقّاً تركيبٌ كلاميٌّ متوازنٌ وإيقاعيٌّ وما الشِّعرُ سوى إيقاعٍ ووزنٍ يمخرانِ بمعانٍ وأبعادٍ .

في هذا البيتِ الحروفُ وصفيَّةٌ والحالةُ مأساويَّةٌ مانخوليَّةٌ اكتئابيَّةٌ ..يبرعُ شاعرُنا في الوصفِ البلاغيِّ الكلاميِّ فكلُّ مفردةٍ في مكانِها ولكلِّ مفردةٍ طاقةٌ قصوى تفي  بمرادِ الشَّاعرِ المعنويِّ , هيَ ثنائيَّةٌ لغويَّةٌ معنويَّةٌ موظفَّةٌ ببراعةٍ وإتقانٍ تنسجمُ فيها المفردةُ معَ الجملةِ والصَّدرُ معَ العجزِ .

أكادُ أقولُ إنَّهُ تصديرٌ مِنْ نوعٍ آخرَ , هو تصديرٌ صوريٌّ مبتكَرٌ حيثُ تتجاوبُ الصُّورتانِ في تأديةِ رسالةِ الوجعِ المفرِطِ وذلكَ للإبلاغِ ببلاغةِ وفداحةِ الإحساسِ الَّذي وصلَهُ الشَّاعرُ مِنْ معاناةٍ يتوقَّفُ فيها اللسانُ عنِ الكلامِ لتؤدِّيَ الرُّوحُ دورَ التَّنفيسِ بأنينٍ بلغَ أقصى درجاتِهِ , والعينُ من كثرةِ الدمعِ قدْ وجدَتْ نفسَها مُجبرةً على البكاءِ وكأنَّها تنبذُ الدَّمعَ الَّذي أنهكَها وما مِنْ مناصٍ .

مدهشةٌ قدرةُ الشَّاعرِ في الوصفِ الدَّقيقِ لنفسيَّتِهِ ولحالةٍ وجوديَّةٍ لا ينتبهُ إليها إلَّا مرهفو  الحسِّ والمشاعرِ , وهيَ اضطرارُ المعاني إلى البكاءِ المُفرِطِ لمجرَّدِ البكاءِ فالدُّموعُ لا تتساقطُ وحسبُ بلْ تتساقطُ وكأنَّ العينَ تنبذُها .

تألُّقُ الشَّاعرِ هُنا يبرزُ في الجزالةِ والاختصارِ وفي التفاتتِهِ إلى حالاتٍ شعوريَّةٍ مِنَ الجميلِ أنْ ننتبهَ إليها .

اطَّلعْنا فيما سبقَ على سمةِ الحنينِ في شعرِ الهيثمِ , وكيفَ بأسلوبِ المشكلةِ والحلِّ طرحَ وضعَهُ الصَّعبَ ومقاساتِهِ فتبيَّنَ لنا أنَّ شاعرَنا فيلسوفٌ مُفكِّرٌ حرفُهُ ينضحُ بالفكرِ الدِّينيِّ الإسلاميِّ ورؤيتُهُ لا تخرجُ عنْ عقيدةِ الصَّبرِ والتَّسليمِ فجاءَتْ أشعارُهُ  منحًى فكريّاً  فلسفيّاً دينيّاً لَهُ ولِمَنْ يشاءُ. 


الفصلُ الثَّالثُ

             "المتنبِّي" و شيحانُ القصيدِ , شعرُهُما في  الحكمةِ     

 

لنْ تلقى الهيثمَ في "متنبَّوِيَّتِهِ المحدثةِ "متجلِّياً أكثرَ ممَّا تجدُهُ في رائعتِهِ

                       "وصيَّتِي "

يَا شَـاكِـياً مِنْ جَـوْرِ دَهْـرِكَ تَـنْـدُبُ

حَـكَمَ الْقَـضَاءُ فَـأَيْـنَ مِنْـهُ الْمَـهْرَبُ


مَا مِنْ مَـنَـاصٍ مِـنْ وِثـَاقِ شِـرَاكِـهِ

 قَـدَرٌ بِــلَائِـحـَةٍ يُــخَـطُّ وَيُــكْـتَـبُ


دَعْ عَـنْكَ أَوْزَارَ الْـحَـيَـاةِ وَزَيْـفَــهَـا

 صَـرْفُ الـلَّـيَــالِيْ خَـادِعٌ مُـتَـقَـلِّـبُ


يُكْـسـى رِدَاءَ مَــذَلَّــةٍ عَـاثَــتْ بـِـهِ

 أَرْزَاءُ زَيَّــنَــهَـا الْــمَــتَـاعُ الْأَجْـرَبُ


دُنْــيَـاكَ يَـوْمَـانِ فَـلَـسْـتَ بِـمَـأْمَـنٍ

 إِنْ كَانَ فيْكَ الْـعَـيْبُ ذَاكَ الْأَعْـيَبُ


مَـا هَـذِهِ الـدَّارُ الْـمُـزَالُ نَـعِـيْـمـُهَـا ؟

لَا بُــوْرِكَــتْ دَارٌ تَــبُــوْرُ وَتَــخْــرَبُ


أُوْصِيْكَ؛ فَلْـتَحْفـَظْ مُتُوْنَ وَصِيَّتِيْ

 لَا تَــهْـذِ فِيْ لـَغْـوٍ كَـأَنَّـكَ تـَخطُـبُ


صَاحِبْ نَـجِيْـبـاً إِنْ وَقَعْـتَ بِـشِـدَّةٍ

 يَـرْفُـدْكَ فِـيْ مَــدَدٍ وَلَا يَــتَــهَــرَّبُ


أَعْـرِضْ عَـنِ الْـغَــدَّارِ إِنْ شَـارَكْـتَـهُ

 يَـحْتَـالُ أَوْ يَـسْطُوْ عَلَيْكَ وَيَسْلِـبُ


وَضَغِـيْنـَةً فِي النَّفْسِ لَا تَحْمِلْ عَلَى

 أَحَـدٍ وَلَا حِـقْــداً  فَـإِنَّـكَ تَـــتْــعَـبُ 


لَا تَـأْمَـنـَنَّ مِـنَ الْــحَـقُـوْدِ فَـقَـلْـبُــهُ

 أَقْسَى مِنَ الْـحَجَرِ الْأَصَمِّ وَأَصْلَبُ


أَسَفِـيْ عَـلَى مَنْ كُنـْتُ أَحْفَـظُ وِدَّهُ

 خَـانَ الْوِصَالَ وَخَـابَ فِيْهِ الْمَأْرَبُ


مَــهْـمَــا تَـزَيَّــنَـتِ الْـقُـشُـوْرُ لَـرُبَّـمَـا

 فِيْ لُـبِّـها دَنـَسُ الرَّجَـاسَةِ يُحْجَبُ


لَـنْ يُـحْفَــرَ الْـبـِئْـرُ الْـعَـمِيْـقُ بِـإِبْـرَةٍ

 أَوْ يَـنْـقُـلَ الــغِـربَـالُ مــاءً يُشْـرَبُ


مَنْ كَـانَ فِيْ طَـلَبِ الْعُلَا مُـتَوَجِّساً

 فَــمَــكَـانُـهُ تَـحْـتَ الْتُّرَابِ لَأَصْوَبُ


عَـجَبِيْ لِـدَهْـرٍ صَــقْــرُهُ مُـتَـوَجِّـسٌ

وَغُـرَابُـهُ فِـيْ كُــلِّ سَـاحٍ يَــنْــعَــبُ


وَالـذِّئْـبُ يـَحْـنِيْ فِيْ خُـنُـوْعٍ هَامَهُ

 وَالْغَابُ قَـدْ حَكَـمَت رُبَـاهَا! الْأَرْنَبُ


لَا تَـفْـخَـرَنَّ بـِطِيْـبِ أَصْلـِكَ واتَّعِظْ 

لَا خَـيْـرَ فِـيْ ولـدٍ إذا فَــسَــدَ الأَبُ 


▪ هيثمٌ النُّسورُ وبحقٍّ فإنَّ شاعرَنا هوَ امتدادٌ حتميٌّ ظاهرًا وجوهرًا لإرثِ المتنبِّي , فنحنُ نرى بأنَّ جيناتِ شعرِ المتنبِّي تجدَّدَتْ وتبرعمَتْ في شعرِ الهيثمِ المعاصرِ.

مَنْ يقرأْ شعرَ الهيثمْ يوقنْ بأنَّهُ أمامَ جبلِ إبداعٍ جذورُ شعرهِ في أعماقِ محيطِ القريضِ راسيةٌ .

وأمَّا في الحكمةِ فلَهُ الباعُ والقاعُ .

مِنْ أبدعِ ما خطَّتْهُ روحُ شاعرِنا في الحكمةِ قصيدةٌ بعنوانِ "وصيَّتِي"

هيَ خطابٌ صريحٌ وإنشاءٌ تربويٌّ وأضمومةُ عبرٍ ودروسٍ يلقيها شاعرُنا على مسامعِ الأجيالِ والنَّشءِ , تماماً كما ألقاها أسلافُهُ العبَّاسيُّونَ , لا تقلُّ جودةً ولا لغةً ولا فكراً وإنْ أُثقلتْ بنكهةِ العصرِ وخلاصةِ التَّجاربِ الذَّاتيةِ للشَّاعرِ.

هذهِ القصيدةُ وإنْ زخرَتْ بالمحسِّناتِ والجماليَّاتِ اللّغويَّةِ إلَّا أنَّها  حرفٌ يمتطي بلاغتَهُ لإظهارِ الحكمةِ الَّتي هيَ قيمةٌ بحدِّ ذاتِها ولذاتِها...وكما قال ميلتون (بتصرُّفٍ) إنَّ البلاغةَ  تكونُ في البحثِ عنِ الحقيقةِ , والحقيقةُ هيَ الحكمةُ بمعنًى آخرَ فإنَّ البلاغةَ يجبُ أنْ تخدمَ الحكمةَ .

هيَ حقّاً وصيَّةٌ جاءَتْ بصيغةِ الأمرِ , وبنبرةِ الأبِ الحانيةِ .

يذهلُنا الشَّاعرُ في هذهِ الرَّائعةِ بأسلوبيَّتِهِ وأسلوبِهِ السَّاحرَينِ الفاخرَينِ  فإنْ جئنا لها تحليلاً أسلوبيّاً ومبنويّاً إنشائيّاً فهيَ تنقسمُ على ثلاثةِ أقسامٍ وهيَ كالآتي:

القسمُ الأوَّلُ حتَّى البيتِ الخامسِ هوَ توجُّهٌ وتقدمةٌ ممهِّدةٌ لنقاشٍ 

Presentation

القسمُ الثَّاني حتَّى البيتِ الخامسَ عشرَ عبارةٌ عن نقاشٍ بأسلوبٍ إقناعيٍّ بلاغيٍّ جدليٍّ

Persuasive argumentative verses

والقسمُ الأخيرُ حتَّى النِّهايةِ عبارةٌ عنْ خلاصةٍ  تتَّسمُ بالحسمِ والتَّأكيدِ على صحَّةِ ما يرمي إليهِ في وصيَّتِهِ Affirmation

هيَ قصيدةٌ تبلغُ البلاغةُ فيها ذروتَها فالأسلوبُ تصريحيٌّ سهلٌ ممتنعٌ يتناسبُ والموضوعَ , إذْ إنَّهُ مِنَ الحكمةِ إيصالُ الحكمةِ بتروٍّ وأناةٍ  فكأنَّ الهيثمَ الحكيمَ ذا البصيرةِ  يدرجُ خطابَهُ بنبرةِ واعظٍ تصاعديَّةٍ  في الإقناعِ  حتَّى يستحوذَ على  فكرِ وحسِّ القارئِ , فلا يتركُ لهُ مجالاً للشَّكِّ في صدقِهِ لتكونَ القصيدةُ قدْ حقَّقَتْ مفعولَها وفاعليَّتَها  مؤثِّرةً في قراراتِ القارئِ صانعةً حياةً.

يستهلُّ الشَّاعرُ قصيدتَهُ بالنِّداءِ وأمَّا ال"يا"  , فهيَ ياءاتٌ , فقدْ تكونُ المخاطبةُ مناجاةً ذاتيَّةً وقدْ تكونَ موجهَّةً للنَّشءِ الصَّاعِدِ وقدْ تكونُ للعامَّةِ والزَّمنِ والأبدِ .يَحضرُنِي هُنا كلمةٌ  (ضميرُ المتكلِّمِ أنا) في الشِّعرِ الأمريكيِّ حيثُ كانَ الشُّعراءُ في قصائدِهِم يشحنُونَها بمعانٍ متعدِّدةٍ في نفسِ الموقعِ منَ الجملةِ فمثلاً عند Emerson كانت موجهةً للشَّاعرِ ذاتِهِ.. لشخصيَّةِ القصيدةِ الرئيسيَّةِ خادمةً المغزى العامَّ Thematic أوْ للأمَّةِ الأمريكيَّةِ والوطنِ ككلٍّ .

والأمر نفسُه في البلاغةِ العبَّاسيَّةِ المُتجسِّدةِ في تكثيفِ المعنى بنفسِ المُفرَدةِ أو الشَّريحةِ الكلاميَّةِ.

ونرجعُ إلى الهيثمِ ففي البيتِ الأوَّلِ يُقدِّمُ لنا موضوعَ القصيدةِ وهوَ أمرُ الشَّكوى العقيمةِ مِنْ أفعالِ القدرِ, لأنَّها هُنا  لا تنفعُ ولا تزيدُ ولا تنقصُ إذ ليسَ هناكَ مهربٌ مِنْ أمرِ القدرِ ,هوَ مصيدةٌ لا إفلاتَ مِنْها  ولا فكاكَ ممَّا يخطُّهُ . يُصعِّدُ إيقاعَ موقفِهِ وخطابِهِ في البيتِ الثَّالثِ ويحثُّ على التروِّي وعدمِ الانخداعِ بلحظاتٍ سعيدةٍ قدْ نعيشُها  فَـ "صرفُ الليالي" خادعٌ متقلِّبٌ .

شاعرُنا الواعظُ المُربِّي يهدفُ في قصيدتِهِ إلى إرشادِ النَّشءِ , وإيرادِ خلاصةِ تجاربِهِ  فيحذِّرُ مِنْ أنَّ أيَّامَنا ما هيَ إلَّا رداءٌ لعبثيَّةِ القدرِ القاسي تعيثُ بِهِ , وتوردُهُ المذلَّةَ والهوانَ كيفَ ومتى تشاء ..ويستطردُ شاعرُنا قائلاً إنَّهُ لَمِنَ العيبِ أنْ نأمَنَ للزَّمن فما العمرُ سوى برهةٍ وعارٌ أنْ نضيِّعَها في حياةٍ خاليةٍ مِنَ الحكمةِ والرَّشادِ ..

نعمْ , الدُّنيا أرضٌ بورٌ لا ثمارَ منْها تُرتجَى لا بوركَت دارٌ نعيمُها زائلٌ. ويقفزُ الشَّاعرُ في القسمِ الثَّاني مِنْ قصيدتِهِ إلى أفقِ التَّوصيةِ والتَّوصيةُ تأتي مِنْ جعبةِ الخبرةِ المكتسَبَةِ فيُنَصِّبُ الشَّاعرُ نفسَهُ هُنا واعظاً حكيماً ويقوى خطابَهُ بثقةِ خبيرٍ عالمٍ  ويبدأُ بتعزيزِ أسلوبِهِ الكلاميِّ البلاغيِّ  فهوَ يطالبُ بحفظِ متونِ وصيَّتِهِ واجتنابِ الهذيانِ والتَّفكيرِ  العقيمِ .

في صلبِ الوصيَّةِ مناشدةٌ بمرافقةِ النُّجباءِ الحكماءِ فهُمْ روافدُ المعونةِ والوفاءِ وبالمقابلِ يحذِّرُ مِنْ مرافقةِ الغدَّارِ والحقودِ فهُمْ لصوصٌ ولؤماءُ .يؤثِّر فينا البيتُ الحادي عشرَ ويستوقفُنا برهةً , فهُنا يكمنُ بيتُ القصيدِ , هنا نستكشفُ خفايا ودوافعَ الوصيَّةِ , نعمْ , إنَّ شاعرَنا قدْ وقعَ في فخِّهِمْ ونالَ مِنْ مرافقتِهِم أصعبَ ما يكونُ مِنْ عواقبَ وخيمةٍ هيَ خسائرُ فادحةٌ ماديّاً ومعنويّاً إنَّ شاعرَنا قدْ وخزَتْهُ شراكُ وأشواكُ صحبةِ السُّوءِ ونالَتْ ما نالَتْ مِنْهُ مِنْ مصائبَ أوردَتْهُ سبلَ التَّعاسةِ والشَّقاءِ .

وبجزالةِ خطابٍ بليغٍ واستعارةٍ باذخةٍ يقولُ في البيتِ الَّذي يليهِ إنَّ مظهرَ الإنسانِ ما هوَ إلَّا قشورٌ خادعةٌ وجوهرَهُ لبٌّ قدْ يعكسُهُ أو يعاكسُهُ وكما قالَ المتنبِّي

إذا رَأيْتَ نيوبَ الليثِ بارزةً 

فلا تَظُنَّنَّ أنَّ الليثَ يَبْتَسِمُ

بلاغةٌ ومحسِّناتٌ لفظيَّةٌ , جزالةٌ وبيانٌ في كلِّ قطعةٍ كلاميَّةٍ فها هوَ يبالغُ في الوصفِ معنًى وشكلاً إذْ يقولُ 

لنْ يُحْفَرَ البِئرُ العَميقُ بِإِبْرَةٍ

نعمْ , هوَ في بيتٍ خرافيِّ التَّعبيرِ يصوِّرُ استحالةَ حفرِ البئرِ بإبرةٍ ليُؤكِّدَ استحالةَ وجودِ الخيرِ في اللئيمِ وهذا التَّعبيرُ يصبُّ في رغبةِ الشَّاعرِ العارمةِ في الإقناعِ بالابتعادِ عن أصدقاءِ المنفعةِ , ويضيفُ وبنفسِ الوتيرةِ واصفاً استحالةَ ذلكَ كاستحالةِ نقلِ الماءِ بالغربالِ

"أَوْ يَنْقُلَ الغِرْبَالُ مَاءً يُشْرَبُ"

هذهِ الصورُ التشبيهيَّةُ الحكيمةُ هيَ نتاجُ قريحةٍ شعريَّةٍ فذَّةٍ عيونُها تبصرُ وتحفظُ وبصيرتُها تحلِّلُ وتفسِّرُ إنَّها عبقريَّةُ مبدعٍ جهبذٍ .

إذا فتقدمةٌ ونقاشٌ وبلاغةُ إقناعٍ لنشرِ الحكمةِ وهلْ هنالكَ حكمةٌ أبلغُ مِنْ نبذِ المذلَّةِ والتَّوجُّسِ في طلبِ العُلا وهوَ إيحاءٌ وتناصٌّ عبَّاسيٌّ محضٌ .

مدهشانِ  البيتانِ الخامسَ عشرَ والسَّادسَ عشرَ

حيثُ تعبِّرُ الصُّورةُ عنْ قمَّةِ الغضبِ في قلبِ الشَّاعرِ فتنتجُ قمَّةِ السبكِ في قمَّة القصيدِ.

يصوِّرُ السَّاحةَ وكأَنَّها  غابٌ عاثَ فيهِ الغدرُ والفسادُ فالصَّقرُ غابَ وحضرَ الغرابُ , الذِّئبُ ينحني للأرنبِ .

عندما يتعدَّى الحرفُ الزَّمنَ تختلطُ الصُّورُ فكأنَّنا عندما نقرأُ الهيثَم وكأنَّنا في حضرةِ المتنبِّي وروحِ بلاغتِهِ وإيجازِ سبكِهِ ودسامةِ معانيه.

نعمْ , في أسلوبِ شاعرِنا الباشقِ تتراكمُ خبراتُ الأجيالِ تتزاحمُ عبرَ التَّاريخِ وتتألَّقُ ابتكاراتُ الحاضرِ فشاعرُنا ههنا يتصِّلُ بالأصالةِ وينقلُ سموَّ حكمتِها وخطابِها ولكنَّ نفسيَّتَهُ تنضحُ بوعيِ واقعِهِ وتفاصيلِ أحداثهِ الَّتي يعيشُها وحبرُه يجاهدُ في نشرِ كلمتِهِ قصيدةً غرَّاءَ غنَّاءَ تقولُ  لا زالَ الفنُّ الأصيلُ حاضراً متجدِّداً.

كيف لا والبيتانِ الأخيرانِ هما جناحانِ لحكمةِ شاعرِ القرنِ العشرين وما بعدَه ينضحانِ بثقافةٍ عميقةٍ في علمِ النَّفسِ ويرسيانِ أهمَّ قواعدِهِ , عظتينِ للقارئِ الحاذقِ : الأولى  الحثُّ على الاعتمادِ على النَّفسِ والثِّقةِ بالنَّفسِ , والأخرى تركُ ما يزعجُ النَّفسَ ويؤرِّقُها ويضعضعُ راحتها .

نعمْ , فهوَ يقولُ للنَّشءِ عليكَ بالبحثِ عنْ صحَّةِ ونقاءِ الأصلِ ونبذِ وتركِ الضَّغينةِ .

توضيحاً أضيفُ وأقولُ بأنَّهُ  قدِ استحدثَ في وقتنا هذا ما يُسمَّى بعلمِ النَّفسِ الدِّينيِّ وهوَ طريقةُ علاجٍ روحانيَّةٍ تهدفُ إلى علاجِ المريضِ  عنْ طريقِ توجيهٍ وإرشادٍ يعتمدانِ على مبادئَ وعظاتٍ دينيَّةٍ تساهمُ في تهدئتِهِ وحقنِهِ بجرعاتٍ إيمانيَّةٍ تعتمدُ على الكتبِ الدِّينيَّةِ والَّتي مِنْ شأنِها إعانتُهُ على تخطِّي أزمتِهِ النَّفسيَّةِ , وهذا ما فعلَهُ القدماءُ تحتَ مُسميَّاتٍ مختلفةٍ وهوَ ما يفعلُهُ الشَّاعرُ المتنبَّويُّ النَّزعةِ تحتَ مسمَّى الوعيِ والثَّقافةِ الدِّينيَّةِ النَّفسيَّةِ .

وما دُمنا في الحكمةِ فلا يفوتُنا التَّعرُّضُ لرؤيةِ لشاعرِنا عرضَها في قصيدةِ "زاغتُ بصائرُنا" إذْ قالَ

أَرَى الحَيَاةَ تُجَافِي كلَّ ذِي خُلُقٍ 

والنَّذلُ فيها على ما فيهِ يُحْتَرَمُ

ومِنْ  قصيدةِ "أمرُ اللهِ"

تُحَابِي كُلَّ غَدَّارٍ أَثِيمٍ

تَمَيَّزَ بالضَّغِينَةِ والشِّقَاقِ


يبدو لنا جليّاً عتبُ الشَّاعرِ ونقمتُهُ على الدَّهرِ فهوَ يتَّهمُهُ بمحاباةِ اللئامِ وأهلِ النِّفاقِ .

لا عجبَ فشاعرُنا كما قلْنا ونكرِّرُ القولَ قدْ  نالَتْ مِنْهُ لسعاتُ اللؤماءِ وغدرُهم فتاهَ في طرقاتِ الألمِ والعذابِ مِنْ عواقبِ ضغينتِهِم وهوَ  يتعجَّبُ إذْ يرى  القدرَ لهُمْ معاوناً والدَّهر لهُمْ يبتسمُ ويغدقُ عليهِمْ رضاهُ .

حكمةٌ قدْ يؤمنُ بها الكثيرُ وهيَ محلُّ قبولٍ عندَ الكثيرِ أيضاً. وما دمنا في الحكمةِ وما دمنا في لسعاتِ القدرِ يحضرُني الآنَ ثنائيَّةٌ مِنْ شعرِ الهيثمِ .الشَّاعرِ الملتزمِ بالقديمِ وزناً وشكلاً , تعبيراً وسكباً فها هوَ يقولُ :


فَيَسْتَخِفُّ بِنَا مَنْ لَا أُصُولَ لَهُمْ

قُلُوبُهُمْ مُلِئَتْ حِقْداً وَأَكْدَارا

فَيَلْهَثُونَ ابْتِغَاءَ المَجْدِ عَنْ عَبَثٍ 

كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ حُمِّلْنَ أَسْفَارا


يَا لَجمالِ وعبقريَّةِ الإبداعِ بيتانِ يعجَّانِ بالبيانِ وجماليَّةِ التَّعبيرِ الصَّوتيِّ فها هوَ  التَّصديرُ يحتضنُهما  وها هوَ شاعرُنا يبدعُ في  تركيبِ وتوظيفِ صوتِ الحروفِ phonetics في أجملِ صورةٍ ليصلَ أقصى جذبٍ للقارئِ وأقصى شحذٍ لتفكيرِهِ.

كثيرةٌ هيَ أشعارُ الهيثمِ في الحكمةِ ومتعدِّدةٌ أساليبُها وجماليَّاتُها ولا مجالَ لحصرِها في فصلٍ واحدٍ.



الفصلُ الرَّابعُ

          ملحمتُه 

                  نبوغُه 

وتألُّقُه في وصفِ سلطانِ الأوصابِ

       يقولُ الهيثمُ :


إِنِّي أُقِيمُ بِذَا الهِجْرَانِ مَلْحَمَتِي

لَعَلَّهَا خِيْرَةَ الأَلْبَابِ تَسْتَمِعُ


لقدْ دوَّخَتْ  أوجاعُ الغربةِ شاعرَنَا فكأنَّ العظماءَ قدْ خُلِقُوا ليتعذَّبُوا فلاذَ إلى خيالِه  ودواتِهِ شاكياً مشقَّتَهُ كاتباً مجدَهُ في آنٍ واحدٍ. قال المتنبي:


وما الدَّهرُ إلَّا مِنْ رواةِ قَصَائِدِي

إِذَا قُلْتُ شِعْراً أصبحَ الدَّهرُ مُنْشِدا


نعمْ , وفي هذا السِّياقِ  قالَ غوته Goethe :"إنَّ الشُّعراءَ لأبهى البشرِ"

وأمَّا البهاءُ فحدِّثْ عنْهُ عندَ الهيثمِ ولا حرجَ .

شاعرُنا وإنْ تعدَّدَتْ سماتُ المدارسِ الشِّعريَّةِ في شعرِهِ إلَّا إنَّهُ بنفسِهِ مدرسةٌ قائمةٌ بذاتِها !.

نعمْ إنَّ الهيثمَ كما لقَّبتُهُ "المتنبِّي الصَّغيرُ"  هوَ وارثُ ومتمِّمُ ومريدُ الأكبرِ قدْ سجَّلَ ملحمةً شعريَّةً في إبداعٍ هوَ أشبهُ بسلسلةٍ ذهبيَّةٍ مِنْ أرقى ما قُرضَ . ملحمةً بمعنى ومنظورِ الهيثمِ مِنْ حيثُ كونُ أشعارِهِ  تروي قصَّةً شعريَّةً بطوليَّةً لشاعرٍ أُبعِدَ عنِ الوطنِ  قسراً ليلقى أقسى ما يكونُ مِنْ بردِ الوحدةِ في  الليالي وصقيعِ السَّهرِ وقدْ نظمَها بعرقِ ودمِ أوصابِهِ الَّتي انتابَتْهُ في غربةٍ قسريَّةٍ ذهبَتْ براحتِهِ وشرذمَتْ راحةَ بالِهِ ولكنَّهُ نهضَ كعنقاءَ واستجمعَ  نفسَهُ ووظَّفَ طاقاتِهِ وأعصابَهُ لتدوينِ مشاعرِهِ وتجاربِهِ مشاعراً وتجارباً لا تقلُّ حجماً عمَّا عاناهُ أبطالُ وآلهةُ الأساطيرِ اليونانيَّةِ  بلْ وأكثرُ , فهوَ عاشَها واقعاً وهم رُبطوا بها خيالاً .

وقد تكاثفَتْ حتَّى أضحَتْ غيمةً مِنْ فكرٍ تساقطَتْ معلَّقاتٍ علقَتْ في ذهنِ القارئِ وما نجا منْها التاريخُ.

الهيثمُ مدرسةٌ شعريَّةٌ  مِنْ أهمِّ سماتِها الموهبةُ الفذَّةُ في القرضِ فتوظيفُ الحرفِ لنقلِ فكرٍ وفلسفةٍ دينيَّةٍ شخصيَّةٍ فمعجمٌ جبَّارٌ فشخصيَّةٌ تعاني  وسواساً قهريّاً إبداعيّاً  أو وسوسةً أدَّتْ إلى خلقٍ شعريٍّ خرافيٍّ , وهنا نتفرَّعُ ونعودُ إلى الرُّؤيةِ الأسلوبيَّةِ في شعرِ الهيثمِ الَّذي بوعيٍ أو بلا وعيٍ عاشَ  صيرورةَ النُّضوجِ في أجواءٍ ميلودراميَّةٍ عنيفةِ الأحداثِ العاطفيَّةِ أقدارُها عاصفةٌ قاسيةٌ . هذهِ السِّماتُ كانتِ السَّببَ في لجوئِهِ إلى مفهومَينِ  أسلوبيَّينِ كما سنرى  وهُما:

 أوَّلاً . الاختيارُ word choice

ثانياً . العدولُ Deviation

أمَّا في الاختيارِ  وهيَ العمليَّةُ الَّتي فيها يخوضُ الشَّاعرُ بمرحلةِ الاختيارِ للوسيلةِ اللغويَّةِ  المناسبةِ  لتأديةِ المعنى والتَّعبيرِ عنْهُ وذلكَ وفقَ قوانينِ اللغةِ  دونَ خروجٍ عنْها  وهيَ مفردةٌ  يريدُها دونَ غيرِها مِنْ مرادفاتٍ . ومِنْ بينِ الكثيرِ منَ البدائلِ المكتنزةِ  في معجمِهِ المحيطيِّ الثَّريِّ وهيَ أشبهُ بعمليَّةِ استبدالٍ حتَّى بلوغِ الكلمةِ الأنسبِ للسِّياقِ وهوَ ما يُسمَّى في علمِ الأسلوبِ "محورَ التَّوزيعِ" أو كما يقولُ العالمُ الأسلوبيُّ جاكبسون : "إسقاطُ محورِ الاختيارِ على محورِ التَّوزيعِ" .

ينتقي شاعرُنا مفرداتِهِ بفكرٍ متردِّدٍ ونبضٍ مرتجفٍ لا غروَ فهوَ وسواسُ الحرصِ والخوفِ مِنْ بهاتةِ الإبداعِ ولا ضيرَ , إنَّهُ قلقُ أمٍّ حنونٍ على سلامةِ ابنِها وخوفٌ صحيٌّ مقبولٌ وإنْ كانَ أساسُه واهناً  واهياً فخطرُ وقوعِ الابنِ صفريٌّ وخطرُ ركاكةُ التَّعبيرِ عندَ الهيثمِ في جمودٍ واستحالةٍ .. كيفَ لا ومعجمُهُ يزخرُ بأبهى وأزهى وأروعِ كلامٍ انظرُوا كيفَ يجدُ مَنْ يقرأُ ديوانَهُ تَرَدُّدَ كلماتٍ مثلَ ..حجارةُ رضفٍ...شبيبتِي ...شوسٌ...هداهدِي ..الأسلِ ..سطوةُ أوصابٍ.. مصفودُ.. أصفادُ وغيرها ..

انظروا تكرارَ الكلماتِ  مثلَ البينِ  الرِّزق ..الهجرِ   الهجرانِ الوطنِ والأوطانِ ..انظروا كلماتٍ على وزنِ فاعلاتٍ مثل مكرماتٍ مبصراتٍ وغيرِها , كلُّ ذلكَ يشيرُ إلى منجمٍ إبداعيٍّ يسكنُ نبضَ شاعرِنا ..وتكمنُ العبقريَّةُ هُنا في إنشاء معجمٍ كلاميٍّ مختصٍّ بحالةِ وظروفِ الشَّاعرِ الوجوديَّةِ .

نعمْ , إنَّ سيمفونيةَ شاعرِنا اللغويَّةَ جمعَتْ ثروةً كلاميَّةً مُميَّزةً أهَّلَتْهُ لمبتكرِ حديثٍ شعريٍّ خاصٍّ بِهِ أيْ (idiolect) , كلُّ حرفٍ فيها يجدُ صداهُ في أوبِّريتِ شاعرِنا الوجوديَّةِ وهذا كافٍ لتأهيلِهِ  أنْ يكونَ شاعراً مخضرماً محترفاً متمكِّناً....كلماتٌ تنضبطُ في مكانِها مؤدِّيةً وظيفتَها النَّحْويَّةَ والمعنويَّةَ بشكلٍ مثاليٍّ ومنسجمٍ معَ الجملةِ دونَ لحنٍ ولا انحرافٍ .

يجدرُ بنا هُنا أيضاً التَّذكيرُ ببعضِ تعابيرَ  مدهشةٍ يكرِّرُها الشَّاعرُ في قصائدِهِ  وذلكَ لسببينِ الأوَّلِ استحسانُهُ لجماليَّتِها والثَّاني استغلالُ طاقتِها وإمكانيَّتِها في التَّعبيرِ عنْ مشاعرِهِ الدَّاخليَّةِ ووصفِ حالتِهِ على أكملِ وجهٍ مِنْ هذهِ التَّعابيرِ على سبيلِ المثالِ قولُهُ "يا للمقاديرِ"

ففي قصيدةِ "وُتْنُ قلبِي" يقولُ :


يَا لَلْمَقادِيرِ إنَّ البَيْنَ أَنْهَكَنِي

وَقَلْبِيَ الصَّبُّ مَصْفُودٌ بِأَشْجَانِي


ليسَ هنالِكَ صرخةٌ أقوى مِنْ يا للمقاديرِ!! لتنقلَ لنا عظمَ المصابِ وفظاعةَ  وفداحةَ الألمِ الَّذي يعيشُهُ شاعرٌ.

إنَّهُ تعبيرٌ موفَّقٌ لشاعرٍ يسكبُ في استعارةٍ باذخةٍ معانيَ بؤسٍ وقسوةَ القلبِ الَّذي تصفِّدُهُ وتقيِّدُهُ أحزانٌ !

تعبيرٌ آخرُ وهوَ مِنْ كلمةٍ واحدةٍ هوَ "أوَّاهُ" !وهوَ عنوانٌ لقصيدةٍ أيضا ..كيفَ لا أوليسَ شاعرُنا مبتلًى مأزوماً وموجوعاً وهلْ للتَّنفيسِ عنِ الوجعِ أنسبُ مِنْ صرخةِ "أوَّاهُ !". أوليسَتْ عالماً بأكملِهِ .. يقول شاعرنا :


أَوَّاهُ مِنْ جَوْرِ دَهْرِي بِتُّ مِنْ عِلَلِي

كَنَافِخِ الكِيْرِ فِي أَشْدَاقِهِ وَرَمُ


حروفُهُ تنطقُ بالألمِ وتُجسِّدُهُ , وصفُهُ ومجازُهُ يجري في النَّبضِ يزعزعُ النَّفسَ فهلْ أوجعُ مِنْ أشداقٍ تنفخُ وفيها ورمٌ ..

يا لهولِ المصابِ وعظمِ الألمِ ! .

رحلتُهُ التَّعبيريَّةُ هُنا أتَتْ في حروفٍ تزعزعُ القارئَ وتؤثِّرُ في نفسِهِ تأثيرَ الوخزِ في البدنِ .

مذهلةٌ طاقاتُ شاعرِنا مدهشةٌ طاقاتُ كلامِهِ  إنَّهُ لبوحٌ فكريٌّ وحسِّيٌّ يشعلُ أوتادَ الشِّعر إلى لا انطفاءَ

..

وأمَّا  السِّمةُ الثَّانيةُ وهيَ العدولُ أو الانزياحُ أو خيبةُ الانتظارِ كما أسماها جاكبسون  فهيَ ما يرتئيهِ الشَّاعرُ مِنْ تعبيرٍ وتركيبٍ  وابتكارٍ ينحى بالقارئِ منحًى لمْ يعهدْهُ ولمْ يتوقَّعْهُ مِنْ قبلُ , فيهِ عنصرُ المفاجأةِ والدَّهشةِ الَّتي تعني في الأخيرِ خيبةً ما توقَّعَ أنْ يقرأَ , وهيَ خيبةٌ إيجابيَّةٌ لأنَّ العمليَّةَ فيها إظهارٌ للغةِ المبدعِ الخارجةِ عنِ النَّمطيَّةِ واللغةِ المعياريَّةِ شرطَ أنْ لا تخرجَ عنْ سلامةِ اللغةِ وتلتزمَ بقواعدِها المختلفةِ. كما وإنَّها تخلقُ في نفسِ القارئِ دهشةً تكسرُ مللَ إيجادِ ما يتوقَّعُهُ وربَّما تحملُهُ إلى أفقِ وعيٍ أعلى. في الانحرافِ هذا تتجلَّى قريحتُهُ و تبرزُ موهبتُهُ وتبانُ قدرتُهُ الإبداعيَّةُ وتمكنُّهُ مِنْ استثمارِ طاقاتِ وإمكانيَّاتِ المفردةِ والحرفِ.  فهيَ عمليّاً تثبتُ بصمتَهُ وتميُّزَهُ .لقدْ تبلورَتْ وصقلَتْ شخصيَّتُهُ مِنْ أوصابِ الغربةِ حتَّى سكبَ عبراتِهِ عِبراً في ملاحمَ شعريَّةٍ .

وبما أنَّنا في جوِّ الأوصابِ فمِنَ البديهيِّ أنْ يرتبطَ ذلكَ بسمةِ الانزياحِ فلَهُ   قصيدةٌ بعنوانٍ ملفتٍ ومُميَّزٍ وجاذبٍ بحدِّ ذاتِهِ وهوَ "سطوةُ الأوصابِ"

قالَ فيها  شاعرُنا النِّحريرُ :

كَادَ الْفُؤادُ مِنَ الْأَحْشَاءِ يُقْتَلَعُ

وَالْآهُ مِنْ سَطْوَةِ الْأَوْصَابِ تَنْدَلْعُ


اللغةُ فصحى غرَّاءُ والمعياريَّةُ منفيَّةٌ , ولكنَّهُ انزياحُ الانزياحِ فسلطانُ الكلامِ يأبى إلَّا أنْ يرتقيَ بالقارئِ إلى آخرِ أفقِ الفصحى فبدلاً مِنْ  مفردةِ "سلطانُ" أو "تسلُّطُ الألمِ" ينتشلُ شاعرُنا مِنْ محيطِ بلاغتِهِ تعبيرَ سطوةِ الأوصابِ ..

اللحنُ في البيتِ شجيٌّ شجيٌّ  فيهِ الشَّجنُ والتَّعابيرُ مؤثِّرةٌ مثيرةٌ للعواطفِ ومُستفِزَّةٌ لمشاعرِ التَّعاطفِ , كيفَ لا وشاعرُنا المعزولُ والمعتزلُ يرزحُ تحتَ طائلِ البينِ والبعدِ عنِ الأحبَّاءِ , يسومُ أنواعَ الأوجاعِ النَّفسيَّةِ والجسديَّةِ ! إنَّ في هذا الانزياحِ خيبةَ انتظارٍ للقارئِ المعتادِ على لغةٍ فصحى دارجةٍ وواردةٍ في معجمِ توقُّعاتِهِ ..

خيبةٌ في مصادفةِ فصاحةٍ لمْ يعتدْها وليتَها تتكرَّرُ مثلَ هذهِ الخيباتِ.

شاعرُنا يترجمُ الفصحى إلى فصحى مِنْ عالَمِهِ فيرفعُ الفكرَ إلى أفقٍ لغويٍّ جماليٍّ  ليشحذَ فكرَ القارئِ ويؤجِّجَهُ ويوقظَهُ مِنْ سباتٍ وليحيِيَ في وعيِنا لغةً لولاهُ لطمسَها النِّسيانُ وباتَتْ في اندثارٍ انظرْ قولَهُ الانحرافيَّ شكليّاً :


جَفَّتْ سَحَائبُكُمْ مُزْنٌ بِلَا مَطَرٍ

وَبَرْقُكُمْ خُلَّبٌ كَالْمُعْتِمِ السَّحِمِ


مَنْ يقرأُ هذا الجمانَ مِنْ كلامٍ قدْ يلتبسُ في هويَّةِ قائلِهِ ربُّما يظنُّه المتنبِّي أوِ المعريَّ نفسيهِما.. المعنى ذمُّ للبخلاءِ وتشبيهُهُمْ بالغيمةِ السَّوداءِ الخاليةِ مِنَ القطرِ .

وبعدُ فهوَ يقولُ :

عَوَاقِبُ الْهَجْرِ ضُرٌّ قَدَّ فِي وُتُنِي

لَمْ يَبْقَ لِي مُرْتَجَى أَوْبٍ لِأَوْطَانِي


الانحرافُ الجماليُّ بارزٌ في كلماتِ (قدَّ فِي ..وُتُنِي ..أَوْبٍ )..مرَّةً أخرى القارئُ العاديُّ يجدُ في هذهِ الدُّررِ  تجديداً في التَّعبيرِ وينتقلُ نقلةً نوعيَّةً إلى قمَّةٍ أرقى مِنْ قممِ الشِّعرِ .

قدْ تكونُ الكلمةُ "قدْ" بشدَّتِها اللفظيَّةِ الواضحةِ وبعمليَّةِ إلحاقِها ب "في" معَ نبرةِ التَّوجُّسِ والتَّخوُّفِ من امتناعِ العودةِ للوطنِ رسالةً مزدوجةً , الأولى خشيةُ الشَّاعرِ من تأبيدِ الغربةِ واستعطافِ القارئِ والثَّانيةُ إظهارُ براعتِهِ اللغويَّةِ وبلاغتِهِ البليغةِ كيفَ لا والتَّصويرُ لهجرٍ يقدُّ في شرايينِهِ ويوقدُ الآلامَ.!!

شاعرُنا أريبٌ فذٌّ نحريرٌ في أسلوبيَّتِهِ وأساليبِهِ الفنِّيَّةِ الجماليَّةِ , انظرْ قولَهُ :

يَا رَبِّ ضَاقَتْ بيَ الدُّنْيَا بِمَا رَحُبَتْ

وَاسْتَمْرَأَ الغَادِرُونَ  النَّيْلَ مِنْ أَلَقِي

ألقٌ ؟؟  نعمْ  هوَ يصوِّرُ كيفَ يستمرئُونَ النَّيلَ مِنْ ألقِ المقهورِ المسحوقِ الغائبِ النَّائي؟ هوَ ألقٌ لأنَّ ألقَهُ هوَ قصيدٌ وشاعرٌ صنعَتْهُما أوصابُ المعاناةِ.


الفصلُ الخامسُ

شيحانُ الباكي على الوطنِ

  

نبغَ شاعرُنا في الوطنيَّاتِ , وقدْ أهَّلَتْهُ قصائدُهُ الوطنيَّةُ ليكونَ في مصافِّ الشُّعراءِ الوطنيِّينَ الكبارِ وليحظى بجدارةٍ واستحقاقٍ بلقبِ "شاعرُ الأردُنِّ" أو "شيحانُ الوطنِ" .ينقسمُ شعرُهُ الوطنيُّ إلى قسمينِ :

الأولُّ . الشِّعرُ الوطنيُّ المهجريُّ والآخرُ الشِّعرُ الوطنيُّ ما بعدَ العودةِ .

نظراً لأهميَّةِ هذهِ القصائدِ التَّاريخيَّةِ والأدبيَّةِ سأتطرَّقُ في هذا الفصلِ وبالتَّفصيلِ لقصيدةٍ على الأقلِّ مِنْ كلِّ فترةٍ.

كيفَ نتعرَّضُ لوطنيَّاتِ شيحانَ في المهجرِ ولا ننحني لقصيدةِ "قطبُ المآثرِ" 

                                             

  جَنَحْتَ لِلصَّمْتِ فِي مُسْتَنْقَعٍ وَخِمٍ

أَمِ اعْتَكَفْتَ مِنَ التَّثْرِيْبِ يَا قَلَمِي

لَا القَلْبُ يَنْبُضُ كَالْمُعْتَادِ فِي شَغَفٍ

وَالْجِسْمُ وَاهٍ وَمُعْتَلٌّ مِنَ السَّقَمِ

تَقَوْقَعَ الْجِسْمُ كَالْعُرْجُونِ مِنْ هَرَمٍ

وَاحْدَوْدَبَتْ قَامَتِي كَالْقَوْسِ مِنْ  سَقَمِ

قَذًى بِعَيْنٍ وَأُخْرَى ضَرَّهَا رَمَدٌ

وَالْأُذْنُ قَدْ صَابَهَا الْإِعْيَاءُ فِي صَمَمِ

يَا طَائِرَ الشَّوْقِ فِي الَأُرْدُنِّ عُزْوَتُنَا

فطُفْ عَلَيْهِمْ بِجُنْحٍ عَابِقٍ وَحُمِ

بَلِّغْ سَلَامِي لِعَبْدِ اللهِ عَاهِلِنَا

قُطْبِ  الْمَآثِرِ  وَالْإِفْضَالِ  وَالشِّيَمِ

يَا هَاشِمِيُّ ابْتَغَيْنَا مِنْكَ مَعْذِرَةً

ضَاقَتْ عَلَيْنَا رِحَابُ الْأَرْضِ فِي سَخَمِ

يَا سَيِّدِي لَمْ يَخِبْ ظَنِّي بِحِلْمِكُمُ

فَاصْفَحْ فُؤَادِيَ مِنْ هَولِ الْخُطُوبِ عَمِي

هَوْناً بِمَنْ لَاكَتِ الْأَيَّامُ عِزَّتَهُ

بِحَقِّ كُلِّ نَبِيٍّ طَافَ فِي الْحَرَمِ

كلُّ ابْنِ آدمَ خَطَّاءٌ بِفِطْرَتِهِ

فَارْفُقْ بِنَفْسٍ كَوَتْهَا عَبْرَةُ النَّدَمِ

نَشَأْتَ فِي دَارِ مُلْكٍ كُنْتَ بَهْجَتَهَا

حَتَّى تَرَبَّعْتَ عَرْشاً شَامِخَ الْقِمَمِ

دَانَتْ لِأَهْلِكَ أَهْلُ الْأَرْضِ قَاطِبَةً

وَسَادَ سُؤْدُدُهُمْ بِالْمَجْدِ وَالْقِيَمِ

حَبَاكَ رَبِّي بِشِيْمَاتٍ وُصِفْتَ بِهَا

مَنَارَةُ الْعَدْلِ فِي الْآفَاقِ كَالْعَلَمِ

أَبُوْكَ مِنْ قَبْلُ نِبْرَاسٌ يُضَاءُ بِهِ

عَنْ نُصْرَةِ الْحَقِّ لَمْ يَهْجَعْ وَلَمْ يَنَمِ

عَرِيْنُهُ كَانَتِ الْآسَادُ تَرْهَبُهُ

سَنَاؤُهُ كَشُعَاعِ الْبَرْقِ فِي الظُّلَمِ

أَجْدَادُكُمْ يَتَّقِي الرِّئْبَالُ سَطْوَتَهُمْ

بِمَكْرُمَاتٍ لَهُمْ سَادُوا عَلَى الْأُمَمِ

مَنَاقِبُ الْعِزِّ فِي أَبْيَاتِهِمْ سَمَقَتْ

فِي ظِلِّهِمْ يَلْتَجِي الْمَلْهُوْفُ مِنْ وَجَمِ

يَا مَنْ بِكُمْ تَفْخَرْ الْأَصْقَاعُ خَرَّ لَكُمْ

أَكَاسِرُ الْفُرْسِ وَالرُّوْمَانِ كَالْخَدَمِ

أَرْكَانُ دَوْلَتِكُمْ بِالْعَدْلِ قَدْ شَمَخَتْ

أَشَدْتَ بِالْعِلْمِ صَرْحاً غَيْرَ مُنْهَدِمِ

عِقْدٌ مِنَ النُّجْمِ مُزْدَانٌ بِجِيْدِكُمُ

كَأَنَّهُ مِنْ طِبَاقِ السَّامِكَاتِ رُمِي

أَنْتُمْ بُرُوجٌ وَفِي الْآفَاقِ نَجْمُكُمُ

هَيْهَاتَ مَنْ مِثْلُكُمْ يَرْقَى إِلَى النُّجُمِ؟

حَبَاكُمُ اللهُ تَشْرِيفاً وَفَضَّلَكُمْ

عَلَى الْخَلَائِقِ مِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمِ

تُشِعُّ أَنْوَارُكُمْ فِي الْخَافِقَيْنِ سَنًا

وَجَارُكُمْ لَمْ يُهَنْ يَوْماً وَلَمْ يُضَمِ

يَا سَيِّدِي عُصْبَةُ الْأَشْرَارِ قَدْ فَتَكَتْ

فِيْمَا أَشَدْتُمْ فَتْكَ الذِّئبِ بِالغَنَمِ

رُعُونَةٌ وَفَسَادٌ بَاتَ دَيْدَنُهُمْ

أَشْدَاقُهُمْ عَنْ حُقُوقِ النَّاسِ لَمْ تُضَمِ

قَضَوا بِتَنْكِيلِ مَنْ لَمْ يَسْتَكِنْ لَهُمُ

وَلَمْ يُرَاعُوا لِقُرْبَى الدَّمِّ وَالرَّحِمِ

يَرَاعُهُمْ سَوْطُ ذُلٍّ يَسْفَعُونَ بِهِ

قِرْطَاسُهُمْ لُوِّثَتْ صَفْحَاتُهُ بِدَمِ

أَظْفَارُهُمْ شَجَّتِ الْأَوْدَاجَ قَلَّمَهَا

ابنُ الْحُسَيْنِ بِسَيْفِ الْفِكْرِ وَالْقَلَمِ

أُرْدُنُّنَا سَادَ يَا بْنَ الْأَكْرَمِينَ بِهِ

مَرَاتِعُ الْفَخْرِ وَالْأَمْجَادِ مِنْ قِدَمِ

يَا طَالِبَ الرِّزْقِ يَمِّمْ صَوبَ رَاحَتِهِ

مَنَاهِلٌ فَاضَ مِنْهَا الْخَيْرُ كَالدِّيَمِ

وَقَرَّ عَيْناً فَإِنَّ الْمُزْنَ تَهْطِلُ مِنْ

كَفَّيْهِ مِدْرَارَةً بِالْخَيْرِ وَالنِّعَمِ

(*)هيهاتَ مَنْ مِثلُكُم يَرْقَى إلى النُّجم ..مَن هُنا تفيدُ السُّؤال وليسَتْ اسماً موصولاً

 عنوانٌ ملوكيٌّ يليقُ برتبةِ الملوكيَّةِ السَّامية , فيهِ مِنَ المُلكِ والاستئثارِ الكثيرُ . الملكِ المعنويِّ والماديِّ والاستئثارِ "الملتزمِ" الخالي سادتي علىَ وَجْهِ الكُرَةِ الأَرْضِيَّةِ وهيَ معنويّاً أقصى مَا يبلغُهُ المرءُ مِنْ قدرةٍ أوِ احترافٍ لميزةٍ أو تمتُّعٍ  بصفةٍ وههنا فإنَّ القطبَ هوَ المَلِكُ ومآثرُه. فهوَ قطبٌ قصيٌّ يَعصى على المتخاذلِين وصولُه أوْ حتَّى الاقترابُ مِنْ أُفُقِهِ.

سادتِي ما أخطأَ الهيثمُ فلوْ نظرَنا في خريطةِ العالمِ السِّياسيَّةِ لوجدْنا أنَّ دولةَ الأردنِّ الحبيبةَ إنْ هيَ إلَّا نقطةٌ تكادُ لا تظهرُ وشعبها الباسلُ الأبيُّ قليلٌ تعدادُه سكَّانيّاً ومقدَّراتُها كذلكَ الأمرُ , ما هيَ بمستوى دولٍ غنيَّةٍ أخرى ولكنْ شاءَتِ الظُّرُوفُ أنْ يحكمُها ملكٌ  جليلٌ نابغةٌ عادلٌ جعلَ مِنَ استمرارِها معجزةً أمامَ كلِّ التَّحدِّياتِ والأحداثِ التَّاريخيَّةِ الَّتي عصفَتْ بالعالمِ مذِ ارتقى عرشَها إلى موعدِ غيابِهِ. قالَ ابنْ خلدونَ "العدلُ إذا دامَ عمَّرَ ,والظُّلمُ إذا دامَ دمَّرَ"

وفي قصيدتِهِ أعلاهُ يصفُ شاعرُنا الملكَ ب "منارةُ العدلِ"

وما ديمومةُ الحكمِ إلَّا إثباتٌ لهذهِ المقولةِ.

منْ هُنا يجولُ في خاطرِنا الاعترافُ بحقيقةٍ  وهيَ بعدُ النَّظرِ وثاقبُ الرُّؤيةِ الَّتي يتحلَّى بها قادةُ الأردنِّ فالعدلُ ينبعُ مِنَ الحكمةِ والحكمةُ مِنَ الصِّدقِ والصِّدقُ مِنَ القوَّةِ والقوَّةُ عكسُ الضَّعفِ.

وفي ذلكَ يقولُ هيثمٌ :

"أَرْكَانُ دَوْلَتِكُمْ بِالعَدْلِ قَدْ شَمَخَتْ

أَشَدْتَ بِالْعِلْمِ صَرْحًا غَيْرَ مُنْهَدِمِ"

قدْ ركَّزَ شاعرُنا قصيدتَهُ في المديحِ الملكيِّ الملوكيِّ في ثلاثِ محطَّاتٍ :

الأولى حتَّى البيتِ الثَّالثِ في التَّثريبِ أوْ ما يشبهُ ندبَ ولومَ الحالِ حالِ الشَّاعرِ والأزمةِ النَّفسيَّةِ والوجوديَّةِ بما فيها مِنْ مآسٍ وتشرذمٍ وتشرُّدٍ والثَّانيةُ حتَّى البيتِ التَّاسعِ في التَّوجهِ إلى الملكِ والاعتذارِ وطلبِ الصَّفحِ ورثاءِ الحالِ الَّتي آلَ إليها المواطنُ والعربيُّ بشكلٍ عامٍّ والثَّالثةُ والأخيرةُ وهيَ مِنَ البيتِ العاشرِ حتَّى الخاتمةِ سكبُ المديحِ وذكرُ مزايا مناقبِ ومآثرِ الملكِ وسلالتِهِ الكريمةِ الأصيلةِ الَّتي نبتَتْ على ترابِ المجدِ والعزِّ والكرامةِ.

رحمَ اللهُ جلالةَ الملكِ الحسينِ بنِ طلالٍ وأطالَ في عمرِ خليفتِهِ الملكِ عبدِ الله المتنوِّرِ الحكيمِ المُحنَّكِ.

بخلافِ سيفِ الدَّولةِ فإنَّ ملوكَ الأردنِّ إنْ أخذوا بما قالوا فهُمْ مِنَ الشَّعبِ وإلى الشَّعبِ قالَ المغفورُ لهُ الحسينُ بنُ طلالٍ : "إنَّنِي أحبُّ هذا الشَّعبَ حبّاً عظيماً فلولاهُ لما كنْتُ شيئاً مذكوراً " .

يا لهُ مِنْ  تواضعٍ وتفانٍ قلَّما نجدُهُ في كلامِ الملوكِ على مرِّ العصورِ وتبعاً لذلكَ فيكونُ شاعرُنا بخلافِ المتنبِّي فكراً إذْ كانَ الأخيرُ مادحاً لغايةٍ في نفسِهِ وجاءَتِ النَّتائجُ بغيرِ ما أحبَّ بينَما في هذهِ المعلَّقةِ الوطنيَّةِ الحاضرةِ فقدْ بُعثَ صوتُ شاعرِنا مِنْ ترابِ الوطنيَّةِ الصَّادقةِ مِنْ لهفةِ المواطنِ المتناغمِ  معَ سلطتِهِ الحامي الحاملِ همَّها وهيَ همُّه ..راجعْ أولَّ ثلاثةِ أبياتٍ لترى نبرةَ مفكِّرٍ تنبضُ كلُّ فكرةٍ وكلُّ كلمةٍ مِنْهُ بأوجاعِ الوطنِ والشَّعبِ شعبِنا العربيِّ الَّذي قاسى ولا زالَ يقاسي الأمرَّينِ مِنْ واقعٍ فرضَتْهُ ظروفٌ خرجَتْ مِنْ سيطرَتِهِ وهرَبَتْ مِنْ قبضتِهِ فكانَ ما كانَ ممَّا يعانيهِ ويقاسيهِ.

أذكرُ قولًا آخرَ للملكِ الرَّاحلِ الحسينِ إذْ قالَ : "مشاكلُ العالمِ العربيِّ هيَ في أغلبِ الأحيانِ نتيجةُ أخطاءِ الزُّعماءِ والسِّياسيِّينَ وليسَ الشّعبِ "ممَّا يتناغمُ وقولَ شاعرِنا حينَ يتوسَّلُ للملكِ بالصَّفحِ عنْ منْ "لاكتِ الأيَّام عزَّتَهُ"يا لها مِنِ استعارةٍ تنطبقُ على شعورِ الحاكمِ والمحكومِ معاً.

أظنُّ أنَّ موضوعَ القصيدةِ وقدْ يكونُ ثمرةَ تخيُّلٍ شاعريٍّ أو فكريٍّ وقدْ يكونُ حدثاً واقعيّاً يدورُ حولَ شخصٍ عربيٍّ أوْ روحٍ تاهَتْ في العالمِ لمْ تجدْ في الدُّنيا أرقى مكاناً وآمنَ موضعاً مِنَ الأردنِّ المصانِ "بقلمِ"  حاكمِهِ بعكسِ دولٍ أخرى تُدارُ "بقلمِ" أظافرِ سلطةٍ باطشةٍ ظالمةٍ.

بمعنًى آخرَ مقارنةً بينَ جودةِ الحكمِ والعيشِ المختلفةِ بينَ الدُّولِ الَّتي زارَها هذا الشَّخصُ أوْ قلْ تخيَّلَها الشَّاعرُ فلمْ يلمسْ مثلَ كرمِ "مزنِ"  الهاشميِّ ورقيِّ معاملَتِهِ.

قدْ يكونُ الموضوعُ أيضاً اعتذاراً لخطأٍ في الرُّؤيةِ ونضوجٍ نظرةٍ كانَتْ تنظرُ للعرشِ نظرةَ تمرُّدٍ ورفضٍ لكنَّها ما لبثَتْ أنْ لبسَتْ ثوبَ النَّدمِ فانظرْ إلى قولِ الشَّاعرِ:

"يَا سَيِّدِي عُصْبَةُ الْأَشْرَارِ قَدْ فَتَكَتْ

فِيْمَا أَشَدْتُمْ فَتْكَ الذِّئْبِ بِالْغَنَمِ"

أعودُ وأكرِّرُ أنَّ المعنى يبقى في قلبِ الشَّاعرِ ومهما يكنْ مِنْ أمرٍ فلبُّ الموضوعِ هُنا يدورُ حولَ "التَّفضيلِ" والفخرِ بكلِّ ما هوَ "أردنيٌّ" مقارنةً بالعالمِ والعالمِ العربيِّ على الأخصِّ.

لا يخفى على القارئِ وحتَّى البيتِ التَّاسعِ نبرةُ الانسجامِ ما بينَ الشَّاعرِ والملكِ , وهيَ أقربُ ما يكونُ لتوجُّهِ ابنٍ لوالدِهِ.

نعمْ فقدْ تعوَّدَ الشَّعبُ الأردنيُّ على علاقةٍ أبويَّةٍ والعرشَ وهذا موثَّقٌ وأثبتَتْهُ الأيَّامُ وما معركةُ الكرامةِ سوى استبسالِ أبٍ دفاعاً عن ابنٍ تكادُ تُغرَزُ براثنُ العدوِّ في جلدِهِ ولكنْ لا ! , فقدْ هزمَ جيشُ الهاشميِّينَ كلَّ خطرٍ شرَّ هزيمةٍ وجاءَتِ المعجزةُ بخلافِ منطقِ مراكزِ القوى...وههنا يثبُ شاعرُنا ليصفَ بيتَ آلِ هاشمٍ إذْ يقولُ :

"عَرِيْنُهُ كَانَتِ الْآسَادُ تَرْهَبُهُ

سَنَاؤُهُ كَشُعَاعِ الْبَرْقِ فِي الظُّلَمِ"

يتحفُنا شاعرُنا البارعُ بجرسٍ موسيقيٍّ ومجازٍ لامعٍ يحملُ أسمى معاني البطولةِ , فأينَ يكونُ البأسُ وأينَ ترتعُ الشَّجاعةُ إلَّا في عرينِ الأسدِ ومَنْ أعظمُ وأشجعُ مِنْ ملكٍ كالأسدِ .؟!

في مدى القصيدةِ البالغِ ثلاثينَ بيتاً على بحرِ  البسيطِ ورويِ الميمِ .تصولُ وتجولُ اللغةُ العنقاءُ والمحسِّناتُ اللّفظيَّةُ والأهزوجةُ الوطنيَّةُ رافعينَ رايةَ الملكِ المنتمي لعائلةِ الأمجادِ  ذاتِ التَّاريخِ النَّاصعِ المشرِّفِ عائلةِ الكرمِ والجودِ والإنجازاتِ وهلْ ينقصُ الأردنَّ إنجازاتٌ وصروحٌ , فهيَ صرحٌ ثقافيٌّ أكاديميٌّ عالميٌّ وهيَ مجتمعٍ ذو قيمٍ وتقاليدَ عاليةٍ وفخرٍ وعزٍّ يتباهى بهِ العربُ أجمعُ .

وفي ذلكَ قالَ شاعرُنا:

"

يَا مَنْ بِكُمْ تَفْخَرُ الْأَصْقَاعُ خَرَّ لَكُمْ

أَكَاسِرُ الْفُرْسِ وَالرُّومَانُ كَالْخَدَمِ

أَرْكَانُ دَوْلَتِكُمْ بِالْعَدْلِ قَدْ شَمَخَتْ

أَشَدْتَ بِالْعِلْمِ صَرْحاً غَيْرَ مُنْهَدِمِ"

قرأت أنَّهُ قدْ قيلَ لعمرَ المختارِ بأنَّ إيطاليا تملكُ طائراتٍ لا يملكُها فقالَ : "أتحلِّقُ فوقَ العرشِ أمْ تحتَهُ؟"

قالوا : "تحتَهُ" , فقال : "مَنْ فوقَ العرشِ معَنا فلا يخيفُنا مَنْ تحتَهُ" , ومَنْ فوقَ عرشِ الأردنِّ مِنْ شعبِهِ  ولَهُ ولنْ يخيفَهُ مَنْ ضدُّهُ.

ومِنْ أجملِ ما قالَهُ الملكُ المُفدَّى عبدُ اللهِ "نحنُ كدولةٍ إمكانيَّاتُنا محدودةٌ لكنْ على الخريطةِ نحنُ أكبرُ مِنْ حدودِنا  وشعبُ الأردنِّ إذا أعطى كلمةً يحافظُ عليها ".

هذا الكلامُ يأتي مِنْ منطلقِ قوَّةٍ وثقةٍ قوَّةٍ في الثَّباتِ وثقةٍ بالعلاقةِ الوثيقةِ بينَ الملكِ وشعبِهِ وهيَ الكفيلةُ باستمرارِ الوطنِ

يحضرُني هُنا قولُ Lincoln محرِّرِ العبيدِ

عنِ الدِّيمقراطيَّةِ إنَّها حكومةُ الشَّعبِ للشَّعبِ مِنَ الشَّعبِ

"...of the people

by the people

for the people"

مِنْ هُنا فإنَّ الملكَ ينثرُ أفكارَهُ التَّقدميَّةَ بأقوالِهِ الدُّرِّيَّةِ الَّتي تؤكِّدُ على "قيمةِ" المواطنِ وأهميَّةِ بنائِهِ وجعلِهِ مركزَ العمليَّةِ التَّنمويَّةِ لتشييدِ صرحٍ حضاريٍّ وطنيٍّ خالدٍ.

الولاءُ المُتبادَلُ بينَ الحاكمِ والمحكومِ هوَ شموخٌ وحنكةٌ سياسيَّةٌ لا بلْ قيمةٌ إنسانيَّةٌ راقيةٌ.

 وهلْ شموخُ وصمودُ الوطنِ في وقتِنا هذا بالأمرِ الهيِّنِ !وهذا ممَّا يثبتُ ويعزِّزُ ويبرهنُ قولَ جلالةِ الملكِ المذكورِ آنفاً وهوَ ينسجمُ معَ بيتِ شاعرِنا القديرِ هيثمٍ النُّسورِ إذْ يقولُ :

"عِقْدٌ مِنَ النُّجْمِ مُزْدَانٌ بِجِيدِكُمُ

كَأَنَّهُ مِنْ طِبَاقِ السَّامِكَاتِ رُمِي"

نعمْ سادتِي كما أوضحْنا في البدايةِ فإنَّ القطبَ بمآثرِهِ ومزاياهُ بلغَ أقاصي السُّطوعِ والعطاءِ تماماً كنجمٍ بعيدٍ في السَّماءِ لا ينكرُ الكونُ نورَهُ ومِنْ دونِهِ فناءٌ .طوبى للأردنِّ بملكِهِ وشعبِهِ

طوبى للشَّعبِ بملكِهِ

طوبى للملكِ بشعبِهِ

عاشَ الأردنُّ

عاشَ جلالةُ الملكِ المُفدَّى

عاشَ عاشَ عاشَ.

هَلُمَّ بنا نقرأْ شيحانَنا يمدحُ أردنَّهُ ومليكَهُ في قصيدةِ "منارةِ العدلِ" المتناثرةِ منْ قلبِ شاعرٍ مهاجرٍ ترفرفُ روحُهُ في سماءِ وطنِهِ والجسدُ غريبٌ في بلادِ الأغرابِ..

          ***،مُبَارَكٌ صَرْحُكُمْ يَا بْنَ الْحُسَيْنِ سَمَا****

                         ***  وَدَامَ بِالعِزِّ كَالْبَتْرَاءِ وَالْهَرَمِ****

مُبَارِكًا لجلالةِ الملكِ ولشعبِهِ ومنتشياً فخوراً , يحتفي شاعرُنا بأردنِّهِ الهاشميِّ صرحِ آلِ هاشمٍ الكرامِ الَّذي يحاشرُ عجائبَ الدُّنيا لا بلْ يسمو ويرتقي عزُّهُ نحوَ الغيومِ وأبعدَ .هوَ صرحٌ تاريخيٌّ إنسانيٌّ سامٍ يفاخرُ بهِ الأردنيُّ بينَ الأممِ.

هوَ بيتُ عزٍّ ومنبرُ تنوُّرٍ وحضارةٍ. هوَ منارةٌ يهتدي بها الضَّالُّ إلى سبلُ الأمانِ. هو وطنٌ .وما أدراكَ ما الوطنُ ؟.

لا ارتباكَ ولا التباسَ ففي قصيدتِهِ الغرَّاءِ "منارةُ العدلِ" يمثُّل الملكُ الوطنَ والوطنُ الملكَ فكلاهُما واحدٌ وكلاهُما المنارةُ.

قيلَ "يُبقي المُلكَ ثلاثةٌ : "العدلُ ،حسنُ التَّدبيرِ وفعلُ الخيرِ" ,وهُنا يشيرُ شاعرُنا الشَّامخُ إلى وجودِ هذهِ الثَّلاثةِ في جوهرِ وصميمِ حكمِ الهاشميِّينَ فقالَ :

"حَيْثُ الْعَدَالَةُ مَضْرُوبٌ سُرَادِقُهَا

فِيْهِ التَّغَاضِي وَإِصْفَاحٌ عَنِ التُّهَمِ".

والآنَ هيَّا بِنا إلى القصيدِ الفاخرِ بلْ هوَ معلَّقةٌ معانيها الذَّهبُ جديرةٌ بهذا اللقبِ , فهيَ فسيفساءُ مِنْ أبياتٍ يجتمعُ فيها عقيقُ الحسِّ وزبرجدُ الفكرِ.

نعمْ , فقدِ اجتمعَ  فيها التَّناغمُ بينَ عاطفتِهِ القاصدةِ معالي العرشِ بمواثيقِ الولاءِ والوفاءِ وفكرِهِ المبجِّلِ والمُثني على أهمِّ ركنٍ مِنْ أركانِ الحكمِ أيِّ حكمٍ , وهوَ "العدلُ".

كيفَ لا وقدْ عنونَها ب "منارةُ العدلِ".

قبلَ الشُّروع في الحديثِ عنِ العدلِ الإنسانيِّ يستهلُّ شاعرُنا القصيدةَ بحمدِ اللهِ تعالى مالكِ الملكِ الَّذي جلَّ جلالُهُ مَنْ إليهِ اللّوذُ والمُلتَجَأُ الَّذي بذكرِهِ تطمئنُّ القلوبُ المرتاعةُ ويتبدَّدُ كلُّ وجلٍ .

ومِنْ بعدُ ينتقلُ بخفَّةِ حرفٍ وبلاغةِ بديعٍ إلى سردِ ما سيسردُهُ عنِ المليكِ المُعظَّمِ والحاكمِ الحصيفِ جلالةِ الملكِ عبدِ اللهِ حفظَهُ اللهُ فيقولُ :

"نَقَلْتُ سَرْدِي يَقِيناً مَا بِهِ رِيَبٌ

وَمَا ابْتَدَعْتُ حِكَايَاتٍ مِنَ الْعَدَمِ"

قَرْنٌ مَضَى فِي ذُرَا الْعَلْيَاءِ سُؤْدُدُنَا

لَوْلَا حَصَافَةُ عَبْدِ اللهِ لَمْ يَدْمِ

حَيْثُ الْعَدَالَةُ مَضْرُوبٌ سُرَادِقُهَا

فِيْهِ التَّغَاضِي وَإِصْفَاحٌ عَنِ التُّهَمِ"

شاعرُنَا يتطرَّقُ إلى عدَّةِ جوانبَ مِنَ الفكرِ السِّياسيِّ ويعجنُ فكرتَهُ بمفرداتٍ شعريَّةٍ رهيفةٍ حتَّى نكادُ لا نفرِّقُ بينَ شعرٍ وفكرٍ , بلْ نرتشفُ المعاني وننهلُها دونَ شعورٍ  أوْ تكليفٍ وههنا تكمنُ الموهبةُ الفذَّةُ والقريحةُ المُتفرِّدةُ الَّتي ترقِّي الشَّاعرَ مِنْ أفقِ الكاتبِ إلى أفقِ المُؤثِّر الَّذي تتحوَّلُ كلمتُهُ إلى صرخةٍ في الأعماقِ إلى سيفِ حقٍّ يقطعُ شكَّ القارئِ باليقينِ ويضطرُّهُ إلى نهجِ منحًى أو مناحٍ لها أثرُ الحسمِ في قراراتِهِ المصيريَّةِ ز

أوَلمْ يقل "حصافة" " عدالة" "إصفاح" , إنَّها مفرداتٌ لمْ تأتِ عفواً بلِ انتقاها شاعرُنا ليصفَ مِنْ جهةٍ ويؤثِّرَ مِنْ أخرى فلا خيرَ في مبدعٍ لا تحملُ كلماتُهُ برقَ الإنارةِ ورعدَ الزَّلزلةِ. وهوَ على أيِّ حالٍ يصفُ حكمَ الأردنِّ  ويصوِّرُهُ في هذا الثَّالوثِ مِنَ  النَّهجِ .النَّهجِ الحكيمِ الَّذي بِهِ يكفلُ أيُّ حاكمٍ سؤدداً سيطرةً واستمراراً يرتوونَ مِنْ قبولِ ومحبَّةِ الشَّعبِ وولائِهِ  إذْ فيهِم يكونُ لينُ الأغصانِ أمامَ العواصفِ وزئيرُ الأسدِ حيالَ التَّطفُّلِ فيهِم يكونُ عطفُ الأمِّ وقسوةُ الأبِ الحاني، وإذْ كانَ عبدُ اللهِ حصيفاً عادلاً مصفحاً , كانَ عرشُهُ شامخاً مجيداً.

للهِ درُّهُ شاعرُنا كيفَ بلباقةِ حرفٍ وباستعارةٍ ساحرةٍ قارنَ رأيَ الملكِ ورزانَتَهُ ببلاغةِ الشَّاعرِ ونفوذِها.

فقدْ شبَّهَ  رؤيةَ الملكِ الرَّشيدةَ الَّتي تجمعُ حولَهُ الشَّعبَ مؤازراً طائعاً محبّاً بلغةِ شاعرٍ بليغةٍ تستقطبُ حسَّ وفكرَ القارئِ فيغدو هوَ القصيدَةَ حيثُ قالَ :

"رَزَانَةٌ وَرَشَادُ الرَّأْيِ دَيْدَنُكُمْ

مِثْلُ الْبَلاغَةِ إِذْ تُعْزَى إِلَى الْفَهِمِ"

بلْ وذهبَ إلى أبعدَ مِنْ ذلكَ حيثُ يقولُ بأنَّهُ لولا فهمُ الشَّاعرِ لَمَا عبَّرَ ببلاغةٍ ولولا حنكةُ الحاكمِ  لَمَا عبَّرَ وسادَ بقدرةٍ  ونباهةٍ. 

إنَّ جوَّ القصيدِ لهوَ ملوكيٌّ ويليقُ برتبةِ الملوكيَّةِ السَّاميةِ.

يصفُ شاعرُنا الملكَ عبدَ اللهِ  بقطبِ المآثرِ:

"وَاقْرِ السَّلامَ لِعَبْدِ اللهِ عَاهِلِنَا

قُطْبِ الْمَآثِرِ وَالْأَفْضَالِ وَالشِّيَمِ"

معجمُ شاعرِنا غنيٌّ باذخٌ ولجامُ إيقاعِهِ يروِّضُ لغةً بأكملِها , فكلمةُ قطبٍ لها الكثيرُ مِنَ القوَّةِ والنُّفوذِ وتختزنُ الجمَّ مِنَ الدَّلالاتِ والمعاني.

فيها مِنَ المُلكِ والاستئثارِ الكثيرُ .

الملكِ المعنويِّ والماديِّ والاستئثارِ "الملتزمِ" الخالي من الأنانيَّةِ فالقطبُ جغرافيّاً أقصى مكانٍ على  وجهِ الكرةِ الأرضيَّةِ وهوَ معنويّاً أقصى ما يبلغُهُ المرءُ مِنْ قدرةٍ أوِ احترافٍ لميزةٍ أو تمتُّعِ  بصفةٍ وههنا فإنَّ القطبَ هوَ الملكُ ومآثرُهُ.

فهوَ قطبٌ قصيٌّ يعصى على المتخاذلينَ وصولُهُ أوْ حتَّى الاقترابُ مِنْ أفقِهِ.

لوْ نظرْنا في خريطةِ العالمِ السِّياسيَّةِ لوجدْنا أنَّ دولةَ الأردنِّ الحبيبةَ إنْ هيَ إلَّا نقطةٌ تكادُ لا تظهرُ وشعبُها الباسلُ الأبيُّ قليلٌ تعدادُهُ سكَّانيّاً  ومقدَّراتُها كذلكَ الأمرُ ما هيَ بمستوى دولٍ غنيَّةٍ أخرى , ولكنْ شاءَتِ الظُّروفُ أنْ يحكمَها ملكٌ  جليلٌ نابغةٌ عادلٌ جعلَ مِنَ استمرارِها معجزةً أمامَ كلِّ التَّحدياتِ والأحداثِ التَّاريخيَّةِ الَّتي عصفَتْ بالعالمِ مذِ ارتقى عرشَها إلى موعدِ غيابِهِ. قالَ ابنُ خلدونَ "العَدْلُ إذا دامَ عَمَّرَ ,والظُّلمُ إذا دامَ دمَّرَ"

وفي قصيدتِهِ أعلاهُ يصفُ شاعرُنا الملكَ ب "منارةُ العدلِ"

وما ديمومةُ الحكمِ إلّا إثباتٌ لهذهِ المقولةِ.

مِنْ هُنا يجولُ في خاطرِنا الاعترافُ بحقيقةٍ , وهيَ بعدُ النَّظرِ وثاقبُ الرُّؤيةِ الَّتي يتحلَّى بها قادةُ الأردنِّ فالعدلُ ينبعُ مِنَ الحكمةِ والحكمةُ مِنَ الصِّدقِ والصِّدقُ مِنَ القوَّةِ والقوَّةُ عكسُ الضَّعفِ.

وفي ذلكَ يقولُ هيثمٌ :

"أَسَّسْتَ بِالْحِلْمِ لِلْأُرْدُنِّ رِفْعَتَهُ

شَيَّدْتَ بِالْعِلْمِ صَرْحاً غَيْرَ مُنْهَدِمِ"

قدْ ركَّزَ شاعرُنا قصيدَتَهُ في المديحِ الملكيِّ لكنَّهُ مديحٌ لا رياءَ فيهِ ولا نفاقَ بلْ :

"إنِّي امتدحْتُكَ كيْ يرقى بكُمْ قلمِي"

يقصدُ أنَّ المديحَ لغرضِ الارتقاءِ والتَّقدُّمِ ويحضرُني هُنا ملوكُ بني العبَّاسِ الَّذينَ تبنَّوا الشِّعرَ والشُّعراءَ , وكانَ أنْ أسكنوهُمْ قصورَهُمْ ومكنُّوهُمْ منَ النُّطقِ بلسانِهِمْ وكانَ منهجُهُمُ السِّياسيُّ أنْ يرتقُوا بالأدبِ والأدباءِ فيرتقيَ الحكمُ بجوهرِهِ وجودتِهِ ,وها هوَ حكمٌ خُلِّدَتْ مبادئُهُ التَّقدُّميَّةُ الأدبيَّةُ وخُلِّدَ شعرُهُ .فخلدَ في شعرِهِ وشعرُه فيهِ قدْ خلَدَ.

كمْ علَّمنا التَّاريخُ عنْ أزمةٍ رَفَعَتْ مِنْ همَّةِ المُبدعينَ فارتفعَتْ هيَ بهمَّتِمْ والعكسُ . قالَ المغفورُ لهُ الحسينُ بنُ طلالٍ :

"إنَّني أحبُّ هذا الشَّعب حبّاً عظيماً فلولاهُ لَمَا كنْتُ شيئاً مذكوراً" .

يا لهُ مِنْ  تواضعٍ وتفانٍ قلَّما نجدُهُ في كلامِ الملوكِ على مرِّ العصورِ وتبعاً لذلكَ فيكونُ شاعرُنا بخلافِ المتنبِّي فكراً إذْ كانَ الأخيرُ مادحاً لغايةٍ في نفسِهِ وجاءَتِ النَّتائجُ بغيرِ ما أحبَّ بينَما في هذهِ المعلَّقةِ الوطنيَّةِ الحاضرةِ فقدْ بُعثَ صوتُ شاعرِنا مِنْ ترابِ الوطنيَّةِ الصَّادقةِ مِنْ لهفةِ المواطنِ المتناغمِ  معَ سلطتِهِ الحامي الحاملِ همَّها وهيَ همُّه ..

هيَ ملحمةٌ قصيدةُ شاعرِنا أو فيها الكثيرُ مِنْ خصائِصِها فهي تدورُ في فلكِ الفكرِ السِّياسيِّ والفلسفِةِ والشِّعرِ معاً وهيَ أهزوجةُ بطولةٍ ووطنٍ وبطولةُ وطنٍ  , هيَ فكرٌ خلاصتُهُ منحى النَّجاحِ في الحكمِ المتمثِّلِ في الاحتضانِ المُتبادَل بينَ سائدٍ وشعبِهِ , وفي ذلكَ يقولُ شاعرُنا :

"فِي ظِلِّكُمْ فَاضَ خَيْرٌ لَا نَفَاذَ لَهُ

وَالذِّيْبُ فِي أُلْفَةٍ يَرْعَى مَعَ الْغَنَمِ"

ما أروعَ هَذا الوصفَ وَمَا أشبهَهُ بأساطيرِ لافونتينَ المكتنزةِ بحكمةِ البشرِ في الأزمانِ فمنذُ متى يرعى الذِّئبُ معَ الغنمِ إلَّا في خيالِ الأَساطيرِ؟ . إذاً فهيَ الحصافةُ والرَّزانةُ في الحكمِ مرَّةً أخرى. هوَ مبدأُ الدِّيمقراطيَّةِ الأعظمِ "عشْ واتركْ غيركَ يعيشُ" إنَّهُ المبدأُ الإنسانيُّ الأرقى حيثُ المناداةُ بالتَّسامحِ والتَّآخي بينَ أبناءِ الشَّعبِ الواحدِ وإنْ ومهما اختلفَتِ الآراءُ .

في مدى القصيدِ وعلى بحرِ  البسيطِ وقافيةِ الميمِ .تصولُ وتجولُ اللغةُ العنقاءُ والمحسِّناتُ اللّفظيَّةُ والأهزوجةُ الوطنيَّةُ رافعينِ رايةَ الملكِ  المنتمي لعائلةِ الأمجادِ  ذاتِ التَّاريخِ النَّاصعِ المُشرِّفِ:

"مَرَاقِدُ الصَّحبِ تثوي في مَرَابِعِكُمْ

مِنْ آلِ بيتِ رسولِ اللهِ مِنْ قِدَمِ"

حينَ تكونُ مرابعُهُمْ مراقدُ مثوى الصَّحابةِ ويكونُ شرفُ الانتماءِ إلى سلالةِ خيرِ البشرِ وأحسنِهِمْ عليهِ أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ فلا يكونُ مربعٌ ولا أصلٌ أشرفُ ولا أرقى!

فلا عجبَ إذاً إنْ كانوا الكرامَ وأكرمَ النَّاسِ كما قالَ شاعرُنا:

"أَطْعَمْتُمُ الْجَائِعَ الْمِسْكِيْنَ مِنْ سَغَبٍ

نَجَدْتُمُ الْبَائِسَ الْمَلْهُوْفَ مِنْ سَخَمِ"


 آلُ هاشمٍ عائلةُ الكرمِ والجودِ والإنجازاتِ وهلْ ينقصُ الأردنَّ إنجازاتٌ وصروحٌ فهيَ صرحٌ ثقافيٌّ أكاديميٌّ عالميٌّ , وهيَ مجتمعٌ ذو قيمٍ وتقاليدَ عاليةٍ , وفخرٍ وعزٍّ يتباهى بِهِ العربُ أجمعُ .

وفي ذلكَ قالَ شاعرُنا:

"

يَا مَنْ بِكُمْ تَفْخَرُ الْأَصْقَاعُ خَرَّ لَكُمْ

أَكَاسِرُ الْفُرْسِ وَالرُّومانِ كَالْخَدَمِ

أَرْكَانُ دَوْلَتِكُمْ بِالْعَدْلِ قَدْ شَمَخَتْ

أَشَدْتَ بِالْعِلْمِ صَرْحاً غَيْرَ مُنْهَدِمِ"

 قيلَ لعمرَ المختارِ بأنَّ إيطاليا تملكُ طائراتٍ لا يملكُها فقالَ : "أتحلِّقُ فوقَ العرشِ أمْ تحتَهُ؟"

قالوا : "تحتَهُ" , فقال : "مَنْ فوقَ العرشِ معَنا فلا يخيفُنا مَنْ تحتَهُ".

وبدونِ مقارنةٍ بينَ العروشِ  نقولُ إنَّ عرشَ اللهِ للهِ تعالى لَكنَّ مَنْ فوقَ عرشِ الأردنِّ يتربَّعُ مليكٌ هوَ مِنْ شعبِهِ ولهُ ، ولنْ يخيفَهُ مَنْ كانَ  ضدَّه.

ومِنْ أجملِ ما قالَهُ الملكُ المُفدَّى عبدُ اللهِ "نحنُ كدولةٍ إمكانيَّاتُنا محدودةٌ لكنْ على الخريطةِ نحنُ أكبرُ مِنْ حدودِنا  وشعبُ الأردنِّ إذا أعطى كلمةً يحافظُ عليها ".

هذا الكلامُ يأتي مِنْ منطلقِ قوَّةٍ وثقةٍ قوَّةٍ في الثَّباتِ وثقةٍ بالعلاقةِ الوثيقةِ بينَ الملكِ وشعبِهِ وهيَ الكفيلةُ باستمرارِ الوطنِ

يحضرُني هُنا قولُ Lincoln محرِّرِ العبيدِ

عنِ الدِّيمقراطيَّةِ إنَّها حكومةُ الشَّعبِ للشَّعبِ مِنَ الشَّعبِ

"...of the people

by the people

for the people"

مِنْ هُنا فإنَّ الملكَ ينثرُ أفكارَهُ التَّقدميَّةَ بأقوالِهِ الدُّرِّيَّةِ الَّتي تؤكِّدُ على "قيمةِ" المواطنِ وأهميَّةِ بنائِهِ وجعلِهِ مركزَ العمليَّةِ التَّنمويَّةِ لتشييدِ صرحٍ حضاريٍّ وطنيٍّ خالدٍ.

الولاءُ المُتبادَلُ بينَ الحاكمِ والمحكومِ هوَ شموخٌ وحنكةٌ سياسيَّةٌ لا بلْ قيمةٌ إنسانيَّةٌ راقيةٌ

 وهلْ شموخُ وصمودُ الوطنِ في وقتِنا هذا بالأمرِ الهيِّنِ !وهذا ممَّا يثبتُ ويعزِّزُ ويبرهنُ قولَ جلالةِ الملكِ المذكورِ آنفاً وهوَ ينسجمُ معَ بيتِ شاعرِنا القديرِ هيثمٍ النُّسورِ إذْ يقولُ :

"عِقْدٌ مِنَ النُّجْمِ مُزْدَانٌ بِجِيدِكُمُ

كَأَنَّهُ مِنْ طِبَاقِ السَّامِكَاتِ رُمِي"

نعمْ سادتِي كما أوضحْنا في البدايةِ فإنَّ القطبَ بمآثرِهِ ومزاياهُ بلغَ أقاصي السُّطوعِ والعطاءِ تماماً كنجمٍ بعيدٍ في السَّماءِ لا ينكرُ الكونُ نورَهُ ومِنْ دونِهِ فناءٌ .طوبى للأردنِّ بملكِهِ وشعبِهِ

طوبى للشَّعبِ بملكِهِ

طوبى للملكِ بشعبِهِ

عاشَ الأردنُّ

عاشَ جلالةُ الملكِ المُفدَّى

عاشَ عاشَ عاشَ 

الآنَ هيَّا بنا تحليقاً معَ قصيدةٍ كُتِبَتْ ما بعدَ العودةِ وهيَ "بائيَّةُ الوطنِ" وقدْ ألَّفَها شاعرُنا كتحذيرٍ أو كمَا قالَ:


"إلى كُلِّ مَنْ يُضمرُ الشَّرَّ للأردنِّ وشعبِهِ ومليكِهِ أوجِّهُ لَهُ قصيدتِي المعنونةَ بـ(بائيَّةُ الوطنِ) والَّتي أوَدُّ أنْ يَعِيَ فحواها وما ترمِي إليْهِ  " , يقولُ شاعرُنا:


قَدْ عَـزَّ مِـنْـكُـمْ سَـامـِـعٌ وَمُـجِـيْـبُ

فَـإِلَامَ هَـذَا الْــعَــذْلُ وَالــتَّــثْـرِيْـبُ 


يَا حَسْرَتِيْ  صَـدِئَتْ صَحِيْفَةُ عُـمْـرِنَا

مِنْ غَـدْرِ دَهْـرٍ ؛؛ يـَزْدَرِي ويُـعِــيْـبُ


سَـأَلُـوْذُ  لِـلْأُرْدُنِّ ؛؛ فِـيْـهِ حَـصَـانَــةٌ

صِـيْـوَانُــهُ لِلْـوَاجِـلِـيْـنَ ؛؛  رَحِـيْــبُ 


يَـا مَـرْتَـعَ الْأَشْـرَافِ إِنِّـيْ مُـسْـقَـمٌ

وَبَـهَـاءُ طَيْـفـِكَ ؛ لِلْعَـلِيْـلِ طَـبِـيْـبُ


فَـالْأَيْـكُ فِـيْ رَوْضِـيْ ذَبُـوْلٌ إِنَّـمَـا

أُمْـلُـوْدُ فَـرْعِــكَ يَـانـِـعٌ وَرَطِــيْــبُ


أُهْـدِيْـكَ وَجْـداً صُـنْـتُـهُ فِيْ مُهْجَةٍ

حَرَّى ؛ لَـهُ بَـيْـنَ الـضُّـلُـوْعِ  دَبِـيْـبُ


أَوْفَـدْتُ عَيْـنِيْ فِي الْفَضَاءِ لِتَرتَقِي

بَـيْـنَ الْكَـوَاكِـبِ تـَحْـتَـذِيْ وَتَجُوْبُ


فَرَمَـقْـتُ أُرْدُنَّ الْفَـخَـارِ قَدِ امْتَطَى

مُـتُـنَ الـنُّـجُـوْمِ ؛ كَـأَنَّـهَـا مَـرْكُــوْبُ 


يَـا مَنْـبَـعَ الْإِنْـعَـامِ سَـهْـلَ الْمُسْتَقَى

وَيَـفَـيْضُ مِنْهُ الْجُوْدُ ؛ وَهْوَ نَضُوْبُ 


أَفْـضَـالُ حَـاتِـمَ لَا تَـجُـوْدُ بـِـبَـذْلِـهِ

مِـنْ رَاحَتَـيْـهِ نَـدَى السَّخَاءِ صَبِيْبُ


فَـبَـنَى أَوَاوِيْـنَ السَّـخَـاءِ ؛ لِـمُـعْـوِزٍ

وابنِ السَبيلِ ؛ وَلَيْـسَ فِيْـهِ سُغُوبُ 


يَـا مَـجْـمَـعَ النَّـهْرَيْـنِ ؛ أَرْفَـدَ أَرْضَـهُ

زَرْعٌ وَفِــيْــرٌ مُـغْـدِفٌ وَخَـصِــيْــبُ


لَـكَ صَـارِمٌ  إِنْ يُـنْـضـِهِ مِـنْ غِـمْدِهِ

إِلَّاكَ ؛؛ يَـا أُردُنُّ ؛؛ سَـوْفَ يَـخِـيْــبُ


فَـنَدَاكَ  رِزْقٌ  لِلْخَـمِيْـصِ ؛ وَمَـلْـجَـأٌ

لِـلْـمُـسْتَـجِـيْـرِ مِـنَ الْأَذَى مَـرْعُـوْبُ


مَا الْـجُـوْدُ إِلَّا مِـنْ مُـزُوْنـِكَ هَـطْـلُـهُ

وَنَـضَـارُ رَوْضِـكَ يَـانِـِعٌ وَخَـضِـيْــبُ


عَـبَـقُ الـنَّسـائـِمِ مِـنْ شَـذَاكَ أَريجُهُ

مِـسْـكٌ يَـفُـوْحُ تَـضَوُّعـاً ؛ وطُـيُـوْبُ


يَـا جَـنَّــةً ؛ فُــقْــتَ الـمَـدائِـنَ عِـزَّةً

حَـقٌّ لَـكَ الـتَّـبْـجِـيْـلُ وَالـتَّـوْجِـيْبُ


يَا مَـوطِـنَ الْأَشْـرَافِ جـِئْتُكَ مَادِحاً

مَا كُـلُّ مَـنْ سَـرَدَ الْكَـلَامَ خَـطِـيْـبُ


فَـقَرِيْـضُ شِـعْرِي لَا يُـضَـارِعُ عِزَّكُمْ

وَبَـلِيْـغُ قـَوْلِـيْ فِي الثَّـنَـاءِ مُـصِيْبُ


حَـمَّـلْـتُ أَنْـفَـاسَ الـشَّـمَـالِ تَـحِـيَّـةً

تَـطْـوِي الْـفَـيَـافِيَ مَـا بِـهِـنَّ لُـغُــوْبُ

 

يَـا خَـيْـرَ أَهْـلِ الْأَرْضِ أَدْعُـوْ رَاجِياً

عَـنْكُـمْ ؛ صُرُوْفُ الـنَّـازِلَاتِ تَـغِـيْبُ


بُـوْرِكْـتُـمُ ؛؛ لِـلـتَّـائـِهِــيْـنَ  مَــنَــارةٌ

فَـاحَ الْأَرِيْـجُ بِـذِكْـرِكُـمْ ؛ وَالـطِّـيْبُ


طُـوْبَى لَكُـمْ ؛ حُزْتُـمْ لـِكُـلِّ فَـضِيْلَةٍ

فَـهَـفَـتْ لَـكُـمْ فِي الْخَافِقَيْنِ قُلُوْبُ


خَـابَ الَّـذِي يَـعْـتَـدُّ يَـرْقَى مَجْدَكُمْ

مَـا مِــنْــهُ إِلَّا ضَــجَّــةٌ وَصَـخِــيْــبُ


عَـقُـرَ الزَّمَانُ فَـلَنْ يُـنَـسِّـلَ صِنْوَكُمْ

مَـا نِـدُّكُـمْ فَـوْقَ الْأَدِيْــمِ ؛؛ ضَرِيْبُ


مَرْحَى لَكُمْ فَـطْـمُ  اللِّسَانِ وَلَـجْـمُهُ

حَـاشَـاكُـمُ ؛ أَدَبَ الْعَـفَـافِ تَـعِيْـبُـوا


إِنْ  هَــلَّـتِ الْأَقْـمَــــارُ فِي آفَـاقـِكُـمْ

تَـتَـوارَ إِنْ أَشْـرَقْـتُـمُ ؛ وَتَــغِـيْـبُ


طُـوْبَى لِعَـبْـدِ اللَّـهِ ؛ صَـارَ وَلـِيَّـكُـمْ

بَـحْـرُ الْـعُـلُـوْمِ وَذُو نُـهًى  وَلَـبِـيْـبُ


يَا بْـنَ الْأَكَـارِمِ قَـدْ أَنَـخْتُ رَكَائِبِي

فِي رَبْـعِـكُمْ ؛ رَيَّـا النَّـسِيْـمِ لَـعُـوْبُ


بُـجِّـلْـتَ يَا مَـنْ تَـقْـتَدِي فِيْكَ الْوَرَى

لَـكَ فِـي الـنَّـزَاهَةِ حُظْوَةٌ وَنَـصِيْبُ


مُـتَـوقِّـدُ الأَفْكَـارِ ؛؛ سَـمْـحٌ فَـاضِـلٌ

دَمِـثُ الْـخِــلَاقِ مُـوَقَّـرٌ وَنَـجِــيْــبُ


لَـنْ يَـسْـمِقَ الْـمَـجَـدَ الَّذِي أُوْتِـيْـتَهُ

مَـلِـكٌ وَلَا قَـيْـلٌ  ؛  إِلَــيْـكَ قَـرِيْـبُ 


أُنْـجِـبْـتَ فَحْـلاً مِنْ صَمَيْدَعَ بَاسِلٍ

خِـنْـذِيْـذِ ؛ طَـرْفُكَ لِـلْغَرِيْـمِ مَـهَيْبُ


قُطْـبٌ حَوَى شَـتَّى الْفَضَائِـلِ جَمَّـةً

وَلِـقَـدْرِهِ قِــيَــمُ الْـجَــلَالِ تَــثُــوْبُ


فَالـصُّبْحُ ثَغْرٌ فِي بَشِيشِكَ ضَاحِكٌ

شَـهْـدٌ يُـقَطـَّرُ مِنْ لـَمًى ؛ وَصَبِـيْـبُ


أَنْـتَ السَّخَـاءُ إِذَا الْـخَـلِـيْـقَةُ غُلِّلَتْ

مِنْـهَا الْأْكُـفُّ ؛ وَلِلْيَـتِـيْـمِ حَـسِـيْـبُ 


فَـتَّـشْـتُ بَيْـنَ الْـخَافِقَـيْنِ فَلَمْ أَجِدْ

أَمْـثَـالَـكُـمْ  بَــيْــنَ الْأَنـامِ ؛؛ أَرِيْــبُ


حَـسْبِـي فَقَدْ بَاهَـيتُ فِي إِطْرَائِكُمْ

وَرَصِـيْـنُ قَـدْرِي يَـرْعَـوِي وَيـَؤُوْبُ


فِي كُـلِّ بَـيْـتٍ مِنْ قَصِيْدِيَ حِكْمَـةٌ

وَعَسَى بـِوَعْظِي ؛ الآثـِمـونَ يَتوبوا


يَـا مَـنْ تَـخُوضُ غِمَـارَ شَحْنَاءٍ أَفِقْ 

لَـنْ يُوقِـظَ الْـفِـتَـنَ الْجـِسَامَ لَبِيْبُ 


فَـانْـظُرْ لِشَامِ الْعِـزِّ كَيْفَ تَشَرْذَمَتْ

وَسَـطَا عَـلَـيْـهَـا أَحْـمَـقٌ مَـجْـذُوْبُ


صَـارَتْ تُـكَـابـِدُ مِـنْ بَـلَاءٍ سَـامَـهَـا

سُـوءُ العَـذَابِ ؛ وَنَـكـبَـةٌ وخُـطوبُ


يَـمَـنُ السَّعِيْـدِ شَـكَا بِقـَهْرٍ بـُؤْسَـهُ 

مِـنْ أَهـلِـهِ ؛ وَطَـغَـتْ عَـلَيْهِ كُرُوْبُ 


فَـعَــلَامَ تُـلْـهِـبُ لِـلْـعَـدَاوَةِ عَـامِـداً

وَالْجُـرْحُ بَـيْـنَ الْأَهْـلِ لَيْـسَ يَطِيْبُ


أَيْـقَظْتَ فِي مَـسْعَى ضَـلَالِكَ فِتْنَةً

لَوْ تَـعْـتَـرِي قُـلَـلَ الْجِـبَـالِ تـَذُوْبُ 


لَا ضَيْرَ إِنْ أَخْطَـأتَ فَانْـكُصْ وَارْعَوِ

فَالسَّـهْـمُ يـُخْـطِـئُ تَـارَةً وَيُصِـيْـبُ


وَالْـعَـيْـنُ لَا تَـعْـلُـوْ عَـلَى أَشْـفَـارِهَـا

وَالرَّأْيُ عِـنْـدَ الْأَخْـسَـرِيْـنَ يـَخِـيْـبُ


 تليقُ بالأردنِّ معلَّقةُ شاعرِنا  "شيحانُ العربِ" ويليقُ بشاعرِنا أردنُّهُ العزيزُ , وأمَّا مقامُهُما فهوَ حيثُ يصلُ جناحُ العبقِ ويسبحُ بريقُ النَّجمِ ويعلو سحابُ المجدِ.

لقدْ تكالبَتْ على أمنِ أوطانِنا الغاليةِ ألسنةُ نيرانِ الفتنِ وفي كلِّ عقرٍ باتَ يخنسُ عقربانُ يشحذُ إبرةَ حمقِهِ  بفجِّ فكرِهِ طامعاً في إثارةِ فتنةٍ وخلقِ بلبلةٍ وقتلِ وطنٍ.

أمَّا شاعرُنا شاعرُ الحنينِ والغربةِ شاعرُ الوطنِ في المهجرِ والعودةِ شاعرُ الإنسانِ والمرأةِ والطبيعةِ والقدرِ , فقدْ أبى إلَّا أنْ يشحذَ صارمَ حرفِهِ بنبضِ فكرِهِ  البنَّاءِ المُتوَقِّدِ   أبى إلَّا أنْ يشحنَهُ بعشقِهِ الغامرِ الطَّاغي لترابِ وطنِهِ فأبرقَ وأرعدَ وتساقطَ قطرُ قصيدِهِ لحنَ عشقٍ أسطوريٍّ يزيِّنُ جبينَ التَّاريخِ ويهتفُ العزَّةُ الوطنُ يهتفُ يعيشُ الملكُ.

إنَّ معلَّقةَ الهيثمِ الشَّاعرِ المُحدَثِ المُجدِّدِ تحملُ مِنَ الكيفِ أضعافاً مضاعفةً ممَّا تحملُهُ مِنَ الكمِّ فهوَ يغمرُنا بعواصفَ مِنْ بلاغةِ التَّعبيرِ وفصاحةِ الخطابِ تكادُ ترجعُنا إلى ذهبيِّ العصورِ مِنَ الشِّعرِ الأصيلِ ولكنْ ليسَ فحسبُ إذْ نجدُ أنفسَنا  مُجبرِينَ على الإقرارِ  بذهبيِّ الحضورِ مِنَ الشِّعرِ الرَّقراقِ والباعِ الطَّويلِ وإنِ التزمَ بعواملِ الشِّعرِ الغابرِ الفذِّ.

هوَ مسيرةٌ  على دروبِ الجهبذةِ والإبداعِ السَّامقِ فكمْ نحِنُّ  للرُّقيِّ بأوطانِنا شعراً ووجوداً بحروفِ الهيثمِ نهيبُ!

نعمْ , لقدْ أرسى الهيثمُ في ذاكرتِنا الثَّقافيَّةِ الشِّعريَّةِ نزعتَهُ الوطنيَّةَ الجارفةَ حتَّى باتَ الانتماءُ عندَهُ ظاهرةً phenomenon شعريَّةً واضحةً للجميعِ تؤجِّجُها أخلاقيَّاتُهُ  وفكرُهُ السِّياسيُّ النَّاضجُ .

نعمْ , هوَ يتوجَّهُ للوطنِ توجُّهَ الابنِ لأبيهِ والجنديِّ لقائدِهِ  بدافعٍ ملتزمٍ  عاطفيٍّ أخلاقيٍّ

                                                     .   (Moral     must)

شاءَ شاعرُنا أنْ يستهلَّ مُعلَّقتَهُ بما يشبهُ العتابَ واللوْمَ بعدَ صدمةٍ وخذلانٍ فنجدُهُ قائلاً :

قَدْ عَزَّ مِنْكُمْ سَامِعٌ وَمُجِيْبُ

فَإِلَامَ هَذَا الْعَذْلُ وَالتَّثْرِيْبُ

نعمْ , هوَ يخاطبُ العروبةَ  نادباً غيابَ الوعيِ وغيبوبةَ العملِ , وذلكَ بعدَ الفتنةِ الَّتي حلَّتْ بوطنِهِ الحبيبِ تكادُ تغرقُهُ في بحرٍ مِنَ الدَّمارِ والانهيارِ.

إنَّ أوطانَنا تأكلُها نيرانُ الحقدِ ومحاولاتُ الهدمِ , وعزَّ مِنْ  مجيبٍ لصرخاتِ الإيقاظِ والتَّنبيهِ حتَّى صدئَتْ صدورُنا مِنْ فسادِ الواقعِ أوْ كمَا يقولُ شاعرُنا :

يَا حَسْرَتِي صَدِئَتْ صَحِيْفَةُ عُمْرِنَا

مِنْ غَدْرِ دَهْرٍ،،يَزْدَرِي وَيَعِيْبُ

نعمْ , شاعرُنا يتحسَّرُ  ويبكي حالةَ العربِ والعرُوبةِ يبكي فواتَ العمرِ , وسيفُ الغدرِ يلاحقُه ويلازمُه   وهوَ إحساسُ كلِّ عربيٍّ يرى واقعَ بلادِنا  الَّتي خرَّتْ وانهارَت أمامَ طعناتِ الخيانةِ والفتنِ المشؤومةِ المتلاحقةِ  ولكنْ لا !! فلا زالَ هناكَ وطنٌ شامخٌ أبيٌّ يعزُّ على الزَّمنِ كسرُهُ إنَّهُ الأردنُّ !!...الأردنُّ وطنُ شاعرِنا وملاذُه المُحبَّبُ فخرُه وصيوانُ  الأحرارِ كَما قالَ مُشيداً بِهِ:

سَأَلُوْذُ لِلْأُرْدُنِّ،،فِيْهِ حَصَانَةٌ

صِيْوَانُهُ لِلْوَاجِلِينَ ،،رَحِيْبُ

يَا مَرْتَعَ الْأَشْرَافِ إِنِّي مُسْقَمٌ

وَبَهَاءُ طَيْفِكَ،،لِلْعَلِيْلِ طَبِيْبُ

في حروفِ شاعرِنا نكهةٌ متنبَّويَّةٌ عذبةٌ ولمسةٌ فكريَّةٌ وطنيَّةٌ أعذبُ كيفَ لا وقدْ طوَتْ حروفُهُ رسالةَ محبَّةٍ لوطنِهِ وسطعَتْ فيها أوصافُ وطنٍ نسيمُهُ بلسمُ الجراحِ وعرينُهُ مسكنُ الأبرارِ وصرحُ الأشرافِ وطنٌ صامدٌ مُحَصَّنٌ أمامَ هجماتِ الأشرارِ ويحضرُني هُنا بيتُ المتنبِّي في المدحِ  حيثُ قالَ :

وَكُلُّ امْرِئٍ يُوْلِي الْجَمِيْلَ مُحَبَّبٌ

وَكُلُّ مَكَانٍ يُنْبِتُ الْعِزَّ  طَيِّبُ

هيَ بائيَّاتٌ مرفوعةٌ برفعةِ الوطنِ مبسوطةٌ كأرضِهِ حضناً دافئاً بِهِ الحرُّ يلوذُ.

شاعرُنا ملتزمٌ وصريحٌ هوَ يعلنُ ولاءَهُ للأردنِّ العزِّ ومليكِهِ.

عندما شعرَ بدبيبِ الغدرِ يقتربُ مِنْ جسدِ الوطنِ هبَّ شاهراً سيفَ قريضِهِ في وجهِهِ ذابّاً بشراسةِ تعبيرٍ وحماسةِ عاطفةٍ عنْ كلِّ ما هوَ أردنيٌّ مِنْ وطنٍ وملكٍ ومواطنٍ وحتَّى عنْ كلِّ ذرَّةِ ترابٍ فيْهِ. كيفَ لا والأردنُّ برأيِهِ :

يَا مَوْطِنَ الْأَشْرَافِ جِئْتُكَ مَادِحاً

مَا كُلُّ مَنْ سَرَدَ الْكَلَامَ خَطِيْبُ

وَالْمَلِكُ :

طُوْبَى لِعَبْدِ اللهِ ، صارَ وَلِيَّكُمْ

بَحْرُ الْعُلُوْمِ وَذُوْ نُهًى وَلَبِيْبُ

غرَّدَتْ أبياتُ شاعرِنا في أرجاءِ قصيدتِهِ متغنيَّةً بالملكِ أوصافِهِ تاريخِهِ وأصلِهِ وكانَ المديحُ منصفاً وكانَ المديحُ في عمقِهِ للشَّعبِ لأنَّ الملكَ هوَ امتدادُ شعبِهِ حاملُ همومِهِ وحارسُهُ الأمينُ , ويكادُ لا يختلفُ أردنيَّانِ في نزاهةِ آلِ هاشمٍ حكمتِهِمْ وفضائلِهُمُ المتعدِّدةِ مِنْ كرمٍ وتسامحٍ وتفانٍ .

نعمْ , همْ يؤمنونَ بنقاءِ مليكِهمْ ويثمِّنونَ تفانيهِ غيرَ المشروطِ في خدمةِ شعبِهِ وكَما قالَ هيثمٌ :

قُطْبٌ حَوَى شَتَّى الْفَضَائِلِ جَمَّةً

وَلِقَدْرِهِ قِيَمُ الْجَلَالِ تَثُوْبُ

وأمَّا عزُّ الأردنِّ وشعبِهِ فعنْهُ حرفُهُ يقصرُ في الثَّناءِ:

فَقَرِيْضُ شِعْرِي لَا يُضَارِعُ عِزَّكُمْ

وَبَلِيْغُ قَوْلِي فِي الثَّنَاءِ مُصِيْبُ

وأنا أقولُ إنَّ كليْهما عزيزٌ فبشعرِ  الهيثمِ يختالُ الوطنُ وبالوطنِ يختالُ شعرُهُ!

نعمْ , إنَّ شاعرَنا يولي للأردنِّ جمالاً يحبِّبُنا فيهِ ويوليه عزّاً لأنَّهُ منبتُ الأكارمِ ومرتعُ قيمِ الجلالِ .

شَاعِرُنا ذو فكرٍ ثاقبٍ ووعيٍ لافتٍ إنَّهُ يخشى على بلدِهِ مصيرَ اليمنِ وسوريا وغيرِها مِنَ البلدانِ العربيَّةِ الَّتي أوردَتْها تبعاتُ الفتنةِ والجهلِ وحمقِ الرُّؤيا مواردَ الهلاكِ والتَّشرذمِ والتَّشريدِ.

تعجُّ أبياتُ شاعرِنا بالحكمةِ والمواعظِ النَّابعةِ مِنْ فلسفتِهِ وفكرِهِ السِّياسيِّ الباسقِ وتمتلئُ عباراتُهُ المُصاغةُ بماسيِّ الكلامِ وساحرِ البيانِ بومضاتٍ ذكيَّةٍ وتلميحاتٍ حاذقةٍ هيَ أشبهُ بإشاراتٍ وتنبيهاتٍ يبتغي فيها الشَّاعرُ إيصالَ خلاصةِ تجربتِهِ لعلَّها تؤثِّرُ  شيئاً ما وتغيِّرُ شيئاً ما في نفسِ وفكرِ القارئِ فهوَ يُجاهرُ ويقولُ :

فِيْ كُلِّ بَيْتٍ مِنْ قَصِيْدِيَ حِكْمَةٌ

وَعَسَى بِوَعْظِي الْآثِمُوْنَ يَتُوْبُوا

نعمْ , لقدْ أعذرَ شاعرُنا بعدَ أنْ أنذرَ  فالفتنُ لا يوقظُها لبيبٌ :

يَا مَنْ تَخُوْضُ غِمَارَ شَحْنَاءٍ أَفِقْ

لَنْ يُوْقِظَ الْفِتَنَ الْجِسَامَ لَبِيْبُ

إنَّ زأرةَ شاعرِنا لا تخلو مِنْ تهديدٍ ووعيدٍ  , ومسعى كلِّ ضالٍّ فتَّانٍ سيخيبُ كيفَ لا وهوَ يقولُ:

لَكَ صَارِمٌ إِنْ يُنْضِهِ مِنْ غِمْدِهِ

إِلّاكَ يَا أُرْدُنُّ ،،سَوْفَ يَخِيْبُ

لا بلْ فهوَ يقطعُ بأنَّ سهامَ الغدرِ لنْ تصيبَ ويدعو للتَّراجعِ عنْ سبلِهِ الخاسرةِ وعيونِهِ الخاسئةِ , لأنَّهُ كما استطردَ قائلاً:

وَالْعَيْنُ لَا تَعْلُوْ عَلَى أَشْفَارِهَا

وَالرَّأْيُ عِنْدَ الْأَخْسَرِيْنَ يَخِيْبُ

مُوقظُ الفتنةِ آثمٌ برأيِهِ وموقظُها آثمٌ لا بلْ وخسرانُهُ مبينٌ كيفَ لا وقدْ لعنَ علماؤُنا الفتنةَ ومَنْ أيقظَها.

مَا أخطأَ بلْ أصابَ شاعرُنا في أسلوبِهِ الصَّريحِ البليغِ في نقلِ رسالتِهِ الإنسانيَّةِ الوطنيَّةِ الرَّاقيةِ  فمَا أحوجَنا لأصواتِ الشُّعراءِ الملتزمينَ في أيَّامنا الحرجةِ هذهِ أصواتِ الشَّرفِ والضَّميرِ الَّتي تخشى على أوطانِنا مِنَ الضَّياعَ وعلى شعوبِنا مِنَ التَّشتُّتِ وكمْ أصابَ في ثنائِهِ على مليكِهِ وهوَ ركيزةُ الوطنِ الأهمُّ فإنْ عزَّزْنا عرشَهُ فقدْ  عزَّزْنا أمنَنا وإنسانَنا .

عاشَ الأردنُّ اليعربيُّ وعاشَ مليكُهُ الهاشميُّ وعاشَ شعبُهُ العربيُّ!!

ما بينَ المهجرِ والعودةِ أعجبَتْني قصيدةٌ كانَ شاعرُنا قدْ كتبَها في مصرَ الحبيبةِ وأجدُني لا أرى مِنَ المناسبِ أنْ ننسبَها لشعرِ المهجرِ كونَها كُتِبَتْ في بلدٍ عربيٍّ عزيزٍ , فكيفَ نصبغُها بالمهجريَّةِ والتُّرابُ كانَ عربيَّا .

كلُّ هذِهِ الأسبابِ الحائمةِ حولَ ظروفِ ولادةِ هذِهِ القصيدةِ , حرَّكَتْ عاطفتِي وارتأيْتُ التَّعرُّضَ لها وتحليلَها في هذا الكتاب.

إنَّ قصيدةَ  "الأردنِّ " تشرحُ وتطرحُ "ظاهرةَ الوطنيَّةِ  كالتزامٍ أخلاقيٍّ A moral must في وطنيَّاتِ هيثمٍ النُّسورِ."

ظاهرةٌ لتكرارِهِ التَّعبيرَ عنْ مشاعرِهِ الوطنيَّةِ الجيَّاشةِ في فترةِ المهجرِ وفترةَ ما بعدَ الرُّجوعِ .

التَّكرارُ دليلٌ على هاجسٍ وفكرٍ يهمُّ ويشغلُ الشَّاعرَ حولَ موضوعٍ معيَّنٍ فيستوطنُ مهجةَ الشَّاعرِ فيكونُ قضيَّتَهُ وسمةً مِنْ سماتِ إبداعِهِ .قدْ يكونُ الوطنُ ملجأً مؤقَّتاً عندَ البعضِ يستبدلُ بِهِ غيرَهُ وقدْ يكونُ وهماً وحالةً افتراضيَّةً عندَ الآخرِ فيقدِّمُ قيماً أخرى عليهِ , وقدْ يكونُ قاعدةً لبناءِ الاستقرارِ فالانطلاقِ إلى الحياةِ عندَ البعضِ فيجعلونَهُ مرسًى لقيمٍ سيبنونَ عليها معيشتَهُمْ وتربيةَ نشئِهم فلا يدَّخرونَ في حمايةِ وتمكينِ هذا المرسى هيكلًا وجوهرًا أيَّ  جهدٍ .


إلى القصيدةِ حيثُ يقومُ الشَّاعرُ بدايةً بتقدمةٍ خاصَّةٍ إشارةَ مِنْهُ وتأكيداً على أهميَّةِ وخطورةِ رسالتِهِ الشِّعريَّةِ فيقولُ :


إلى كُلِّ مَنْ يُضمِرُ الشَّرَّ للأردنِّ وأهلِهِ أوجِّهُ لَهُ رسالتِي الَّتي أودُّ أنْ يَعيَ فحواها وما تصبو إليهِ..


ثُمَّ ينشدُ هيثمٌ النُّسورُ  أغنيةَ وطنِهِ قائلاً :

يَا أُرْدُنَ الْـخَـيْرِ لَا تـُـضْنِـيْكَ أَحْزَانُ

وَلَـنْ تــَنُــوْءَ بِـحَـولِ الـلـَّـهِ ؛؛ عَمَّانُ 


يَا مَـنْـبَـعَ الْـعِـلْمِ لَا مَـسَّـتْـكَ بائِـقَـةٌ

شـانِـيـكَ يَخْسَا وَلَا يَـعْـلُـو لَـهُ شَانُ


جـَـنـَتْ عَلَيْكَ أَيَـادٍ تـَبَّ صَـاحِـبُـهَـا

 شِيْـمَاتُـهُ الْـغَدْرُ ؛ لِلْمِـيْـثَـاقِ خَـوَّانُ


 شُـذَّاذُ آفَـاقِ؛ عَاثُوا فِي بَـهَاكَ لِكَيْ

 تُـدَنِّـسَ الـرِّفْـعَـةَ الــشَّــمَّـاءَ أَدْرَانُ

       

 وَلـَّتْ عَلَيْنَا صُرُوْفُ الدَّهْرِ مِنْ لُكَعٍ

  كَأَنَّـهُمْ فِي مَجَالِ الـصَّقْـرِ غِرْبَـانُ


 أَبَا حُسَيْنٍ عَظِيْمَ الشَّانِ كَمْ شَمَخَتْ

 لِـجُوْدِ كَـفِّـكَ وَالْـمَعْرُوفِ ؛؛ أَوْطَانُ


  إِنَّ الْـجَلَالَـةَ مِـنْ أَجْدَادِكَ انْتَقَلَتْ

  وَمَـا يُــوَاكِــبُــهَـا زْوْرٌ  وَبُــهْــتَــانُ 


  فَكُنْتَ عَـوْناً لِذِي غَدْفٍ وِذِيْ مَلَقٍ

  فَـضَائِلٌ عَـمَّـتِ الْـوَادِي وَإِحْـسَـانُ


 حَكَمْتَ بِـالنَّاسِ فِي قِسْطٍ بِلَا شَطَطٍ

 قِسْطاسُكَ الْعَدْلُ لَا بَغْيٌ وَخُسْرَانُ

       

 فَاسْلَمْ وَدُمْ دَائِماً حُـيِّيْتَ مِنْ مَلِكٍ

 مِـنْ آلِ هَـاشِـمَ ؛؛ أَقْـيَالٌ وَأَعْـيَـانُ


ظاهرةُ الاحتفاءِ بالوطنِ وتبجيلِهِ تميِّزُهُ مِنْ غيرِهِ فقدِ اتَّخذَ مِنَ الوطنِ قيمةً ثابتةً لا مأوًى تحكُمُهُ الظُّروفُ السِّياسيَّةُ والجغرافيَّةُ ومعنًى لا لفظاً خاوياً كالخطاباتِ الدِّيماغوجيَّةِ

هَا هوَ يقولُ :


يَا أُرْدُنَ الْخَيْرِ لَا تُضْنِيْكَ أَحْزَانُ


يؤنسنُ البلدَ ويجعلُهُ امتداداً نفسيّاً لهُ فيتضامَنُ معَهُ وكأنَّهُ بشرٌ يحزنُ ويفرحُ ..هكذا يجعلُ مِنَ الوطنِ قيمةً لا خريطةً.


 ويتَّخذُ مِنْهُ معنًى لا قشوراً تفرزُها الخطاباتُ الخاويةُ والتَّظاهرُ المُتلوِّنُ يقولُ :


يَا مَنْبَعَ الْعِلْمِ لَا مَسَّتْكَ بَائِقَةٌ


الوطنُ موردُ الثَّقافةِ ومصدرُ العلمِ والتَّعليمِ إنَّه ما ينشدُهُ اليوتوبيُّونَ لا بلْ والواقعيُّونَ أيضاً فهوَ عطاءٌ لا أخذٌ وهوَ محارٌ لا صدفٌ .

تتكثَّفُ في صدرِ شاعرِنا أحاسيسُ الغضبِ حيالَ كلِّ خوَّانٍ غدَّارٍ  يكيدُ بوطنِهِ ويتآمرُ عليهِ فيقولُ :

جَنَتْ عَلَيْكَ أَيَادٍ تَبَّ صَاحِبُهَا

 ويقولُ :

شُذَّاذُ آفَاقِ؛؛ عَاثُوا فِي بهاكَ

للهِ درُّهُ شاعرُنا كيفَ يجعلُ بينَ مفرداتِ الجملةِ  مغناطيساً فكريّاً يشدُّهم إلى بعضٍ  فيلتصقُ المعنى برنَّةٍ موسيقيَّةٍ تشدُّ القارئَ إلى جمالِ وجماليَّاتٍ لفظيَّةٍ تذكِّرُنَا بشعرِ الغابرينَ مِنَ العُظماءِ أمثالِ المتنبِّي والبحتريِّ وغيرِهما .

رائعةٌ  هيَ شذراتُ شاعرِنا الفذِّ فكلُّ مفردةٍ تشعُّ كبصيصِ  نورٍ في الظُّلمةِ.

لا بلْ وتزدحمُ في أبياتِهِ الفلسفةُ  والحكمةُ فيقولُ :

وَلَّتْ عَلَيْنَا صُرُوْفُ الدَّهْرِ مِنْ لُكَعٍ

كَأَنَّهُمْ فِي مَجَالِ الصَّقْرِ غِرْبَانُ

 أعداؤُهُ "لكعٌ "  والزَّمانُ بهمْ ولَّى  فالغربانُ عندَ حضورِ الصُّقورِ قهقرى وخسرانٌ .

رائعةٌ هيَ الحكمُ الَّتي تتغلغلُ في طيَّاتِ معانيهِ وشاعرُ الحنينِ ههنا لا يخلو شعرُهُ مِنْ حكمةٍ تماماً كمليكِهِ  وأجدادِهِ فهُمْ  شموخٌ عظماءُ الشأن كرماءُ كرامٌ  لا بلْ وأكثرُ...فهوَ يصفُ أبا الحسينِ ويقولُ :

حَكَمْتَ بِالنَّاسِ فِي قِسْطٍ بِلَا شَطَطٍ

قِسْطَاسُكَ الْعَدْلُ لَا بَغْيٌ وَخُسْرَانُ


إنَّ مليكَهُ عبدَ اللهِ  حكيمٌ عادلٌ .انظروا القوَّةَ اللفظيَّةَ والشُّحنةَ الموسيقيَّةَ في كلماتِ  "قسط " و "بلا شطط" و"قسطاسك" ..ليسَ عبثاً اختيارُ شاعرِنا لها بلْ هوَ الشَّاعرُ الأنيقُ صاحبُ الأسلوبِ البليغِ والأسلوبيَّةِ الهادفةِ البليغةِ المقنعةِ والفكرِ اللّامعِ  الَّذي يوضِّحُ موقفَ الوفيِّ الَّذي لا يلينُ والمنتمي الَّذي لا يهادنُ ولا يساومُ على وطنِهِ ومليكِهِ.

وكيفَ يكونُ كلُّ ذلكَ ولا يختتمُ شاعرُنا بدعاءٍ لسلامةِ الوطنِ والملكِ!! , يقولُ : 

فَاسْلَمْ وَدُمْ دَائِماً حُيِّيْتَ مِنْ مَلِكٍ

مِنْ آلِ هَاشِمَ أَقْيَالٌ وَأَعْيَانُ

بمنطقِ الإخلاصِ  الَّذي سادَ جوَّ القصيدةِ ينهي شاعرُنا قصيدَتَهُ  وبنفسِ الحماسِ الَّذي استهلَّ بِهِ قصيدَهُ وبأمنياتِ السَّلامةِ لوطنِهِ ومليكِهِ يختتمُ خطابَهُ  فبالسَّلامةِ يكونُ البقاءُ وبالبقاءِ تستمرُّ الحياةُ .

ما الشِّعرُ إنْ لمْ ينبُعْ مِنَ الشُّعورِ ومَا الشُّعورُ إنْ لمْ ينسبْ مِنْ عشقِ الوطنِ حتَّى النُّخاعِ! ومَا الشَّاعرُ إنْ لمْ يلملمْ هذِهِ المَشاعرَ ويضبطَها في حلَّةٍ لفظيَّةٍ معنويَّةٍ فيها مِنْ جمالِ الشَّكلِ والرُّوحِ مَا يحوي مساحاتِ الوطنِ كأبٍ يحوي طفلَهُ.!

عاشَ الأردنُّ وطنُ كلِّ عربيٍّ إنْ حزنَ حزنَتِ العربُ وإنْ فرحَ طربَتْ وانتشَتْ!

نعمْ , إنَّ شاعرَنا قدْ عاشَ فترةً مغترباً في المهجرِ , عانى خلالَها ابتلاءاتٍ وآلاماً نفسيَّةً وجسديَّةً وعزلةً إنسانيَّةً وفكريَّةً صقلَتْ فيهِ مِنْ بعدِ اكتواءٍ نظرةً تقدميَّةً لمفهومِ "الوطنِ " وَكَما قالَ الشَّاعرُ لوركا "يا لهُ مِنْ ألمٍ ألَّا يكونَ لكَ ألمٌ" فالألمُ هوَ النَّارُ الَّتي تذيبُ المعدنَ مخرجةً مِنْهُ الشَّوائبَ  فتصقلُهُ معدناً نقيّاً صافياً هكذا هوَ شاعرُنا الَّذي بحكمةٍ وبصيرةٍ حوَّلَ مقاساةَ المهجرِ إلى قصيدةٍ للوطنِ وحوَّلَ طاقةَ القولِ إلى حركةٍ وفعلٍ  نحوَ بناءِ الوطنِ ونحتَ مِنْ صخرِ الضَّياعِ  هويَّةَ الانتماءِ الحقِّ .

مَنْ يُراجعُ وطنيَّاتِ هيثمٍ النُّسورِ يلاحظُ أنَّ شاعرَنا يتعدَّى المشاعرَ الوطنيَّةَ العاديَّةَ ويتعربشُ على سلالمِ الفكرِ وفلسفةِ الأخلاقيَّاتِ ethics بتوجُّهِهِ إلى الوطنِ كقيمةٍ عليا مرتفعاً بمواطنِهِ إلى آفاقِ الوجودِ الإنسانيِّ الرَّاقي الَّذي يحفظُ للإنسانِ كرامتَهُ وحقوقَهُ محقِّقاً لهُ حياةً كريمةً تليقُ بإنسانيَّتِهِ الَّتي فضَّلَهُ بِها اللهُ على باقي مخلوقاتِهِ .

نعمْ , لشعرِ النُّسور الذَّهبيِّ الرَّخيمِ الصَّافي جوانبُ أخلاقيَّةٌ ولكنْ أيضاً جماليَّةٌ فشاعرُنا ملتزمٌ بالشِّعرِ الموزونِ ومعجمُهُ ثرٌّ تعجُّ أبياتُهُ بالمجازِ المُبتكَرِ والتَّصويرِ اللّافتِ وكما ذكرْنا فإنَّ أسلوبيَّتَهُ مدهشةٌ  لِمَا فيها مِنْ خطابٍ جزْلٍ فصيحٍ بيانُهُ سحرٌ يلوِّنُ  السُّطورَ وبنانُهُ  جناحٌ يسابقُ النُّسورَ.

بكى شاعرُنا في وطنيَّاتِهِ حالَ أمَّتِنا ورثى لها فهوَ شاعرُ العربِ لا الأردنِّ فحسبُ وكمْ بكى القدسَ وكمْ رثى لحالِها وكمْ قرَّعَ وذمَّ مَنْ سبَّبَ خسارتَها وأبكى أقصاها , فها هو يقولُ :

***    يَبْكُوْنَ قُدْساً كَطِفْلٍ ضَلَّ دُمْيَتَهُ

       خَالَفْتُمُ الدِّيْنَ فِي جُحْدٍ بِلَا ذِمَمِ  ***

وهوَ بيتٌ مِنْ قصيدةِ "يبكونَ قُدسًا".

هِيَ زفراتُ شاعرٍ مُنتَمٍ مخلصٍ يشكو آلامَ القُدسِ خاصَّةً أهالي حيِّ الشَّيخِ جرَّاحٍ وما يعانونَ مِنْ ظلمٍ وبطشٍ واعتداءاتٍ على أرواحِهم وممتلكاتِهم لا بلْ وتهديدٍ لوجودِهم وتلويحٍ بتهجيرِهم ظلماً وعدواناً.

القصيدةُ وطنيَّةٌ هجائيَّةٌ جاءَتْ في قالبٍ تأنيبيٍّ توبيخيٍّ لقادةِ الأمَّةِ المتخاذلِينَ والمتقاعسِينَ عنْ خدمةِ الأمَّةِ بإخلاصٍ ووفاءٍ وأكثرُ فهيَ في نظري نوعٌ مِنَ النَّقدِ الذَّاتيِّ self-criticism لهُمْ ولشعبِنا العربيِّ .

النَّقدُ الذَّاتيُّ لا يقلُّ رقيّاً عنْ الثِّقةِ بالنَّفسِ بلْ هوَ رافعةٌ لاسترجاعِ الثِّقةِ و المجدِ وأيِّ شيءٍ ضاعَ .

القُدسُ ضاعَتْ وقدْ جاءَ هذا النَّقد ليخزَ ضمائِرَ قادةٍ نائمينَ ويوقظَها لعلَّها تستجمعُ قوَّتَها لتسترجعَ القُدسَ .وأمَّا في البيتِ أعلاهُ فشاعرُنا مؤنِّبٌ متشائِمٌ .هوَ العنوانُ "يبكون قدسا" يثيرُ مشاعرَ الاستخفافِ بنيَّةِ القادةِ وعدمِ الثِّقةِ بدموعِ التَّماسيحِ الَّتي يذرفونَها وأمَّا "قُدساً" فهيَ غيرُ مُعرَّفَةٍ ربَّما لأنَّ القادةَ لا يعرفونَ أهميَّةَ هذِهِ الصَّخرةِ التَّاريخيَّةِ الصَّامدةِ حقَّ المعرفةِ لا يفقهونَ قيمتَها الحقيقيَّةَ في قلبِ كلِّ عربيٍّ ومسلمٍ , فباتَتْ غيرَ معرَّفَةٍ نظراً لجهلِهِمْ وعدمِ نضوجِهِمْ وارتقاءِهِمْ لهذا المستوى مِنَ الوعيِ تماماً كطفلٍ غيرِ ناضجٍ يبحثُ عنْ دميةٍ أضاعها .

يا لهولِ مُصابِنا إنْ تساوى نضوجُ زعمائِنا بعقلِ طفلٍ أضاعَ دميتَهُ!! .

وأمَّا العجزُ فيعجزُ القلمُ عنِ الإتيانِ بوصفٍ يرقى لعمقِ معانيه وفلسفتِهِ الدِّينيَّةِ .

إنَّ شاعرنا يعتقدُ بأنَّ مخالفةَ الدِّينِ وجحودَ النِّعمِ وبيعَ الذِّممِ هوَ ما آلَ بأمَّتِنا إلى ما آلَ إليه مؤمناً بقولِهِ تعالى"وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيْدِ "صدق الله العظيم.

في جذورِ كلِّ فكرٍ دينيٍّ وكلِّ مُعتَقَدٍ دينيٍّ راسخةٌ فكرةُ الجحودِ بمعنى أنَّهُ لولا  جحودُ الإنسانِ بنعمةِ ربَّهِ لكانَ في أمنٍ مِنَ  المصائبِ والنِّقمِ فالجحودُ يزيلُ النِّعمَ , وليسَ خافيًا أيضاً أنَّ معنى الشَّاعرِ قدْ يأخذُ منحًى آخرَ , وهوَ أنَّ القادةَ قدْ خالفُوا أوامرَ الدِّينِ وجحدُوا النِّعمَ وباعُوا الأوطانَ والذِّممَ.

 قصيدةٌ جريئةٌ باسقةٌ تشرقُ مِنْها معاني الوطنيَّةِ الحقَّةِ واستنهاضِ العزيمةِ لاسترجاعِ ما يمكنُ استرجاعُهُ مِنْ مجدٍ تباهَتْ بِهِ العربُ مرَّةً وغابَ ولمَّا يحضُرْ.



الخاتمةُ

               الشَّاعرُ المفلق


"يَا نَفْسُ لَا تَسْتَكِيْنِيْ فَالليَالِي رَحًى

فَلَيْسَ يَنْفَعُنَا الْإِذْعَانُ وَالْخَنَعُ"


هذا هوَ شيحانُ القصيدِ إنَّهُ روحٌ شاعريَّةٌ لا تستكينُ , حروفُهُ رحى الجمالِ للنَّفسِ ساقيةً  حجارتَها معاني الحبِّ في انفلاقٍ.

رافقَنا فيما سبقَ الهيثمُ في مشوارٍ مثرٍ ومنعشٍ في رياضِ حروفِهِ العصماءِ وكانَ أنْ دُهشْنا مِنْ عظمةِ ملكَتِهِ الشِّعريَّةِ وتألُّقِ موهبتِهِ في القرضِ على تعدُّدِ جوانبِهِ وتنوُّعِ أغراضِهِ.

صادفْنا في مشوارِنا شاعراً نحريراً يعلمُ مِنْ أينَ ينتشلُ حرفَهُ ويدركُ خفايا سحرِهِ ويتقنُ  صنعتَهُ.

شاعرُنا عباسيُّ الملامحِ والجذورِ , عصريُّ المواضيعِ والثَّقافةِ.

سبقَ وذكرْنا أنَّ شاعرَنا مدرسةُ شعرٍ مستقلَّةٌ مِنْ حيثُ أنَّهُ استلمَ إرثاً وعصرَنَهُ دونَ كلْمٍ يلحقُ بجوهرِهِ وقيمتِهِ بلْ بالعكسِ فإنَّ شاعرَنا المُحدثَ قدْ أجَّجَ ملامحَ القديمِ وأحياه روحاً وشكلاً لِمَا لمسناهُ مِنْ تناصٍّ وتطابقِ منهجٍ وتطبيقٍ معَ شاعرِ العربِ الأكبرِ ألا وهوَ المتنبِّي , ولهذا السَّببِ تبرُّكاً بالقديمِ وتكريماً للحديثِ لقَّبْنا شاعرَنا بالمتنبِّي المُحدثِ أو شِيحانِ القصيدِ ونحنُ أبعدُ ما نكونُ عنْ كسوتِهِ بعباءة المتنبِّي , لكلٍّ بصمتُهُ واتِّجاهُهُ وأمَّا الهيثمُ فهوَ متنبّي مُحدَثٌ  يحملُ بصمةً وإضافةً خاصَّةً ومِنَ الأهميَّةِ بمكانٍ وستجدُ مكانتَها التَّاريخيَّةَ بينَ الشُّعراءِ العربِ المُحدَثينَ الأفذاذِ .

لقدْ تمكَّنَ شيحانُ القصيدِ مِنْ بلورةِ حديثٍ شعريٍّ  خاصٍّ Idiolect وهوَ بمثابةِ بلوغِ قمَّةِ الإبداعِ , وهوَ ما لا يصلُهُ سوى العباقرةِ .

نعمْ حديثُهُ متعدِّدُ الطَّبقاتِ والأبعادِ , وفيهِ مِنْ خبرةِ الأخيارِ أسرارٌ لا يعيقُ عالميَّتَهُ عائقٌ فهوَ يصبُّ في مصافِّ  الإبداعِ والوصفِ الإنسانيِّ الرَّاقي لأدقِّ تفاصيلِ الطَّبيعةِ البشريَّةِ في أقصى حالاتِ ألمِها وبهجتِها , لأنَّ شعرَهُ يحملُ نبضَ القلبِ حزيناً كانَ أمْ منتشياً.

كيفَ لا وقدْ أثبتْنا ومِنْ خلالِ أشعارِهِ أنَّهُ استطاعَ أنْ يصقلَ لَهُ هويَّةً إبداعيَّةً خاصَّةً أسلوباً خاصّاً وسمةً خاصَّةً.

حديثُ الهيثمِ ملامحُهُ أصالةُ الحرفِ ، ثراءُ المعجمِ ومتانتُهُ ،عمقُ الفكرِ في طروحاتِهِ الفلسفيَّةِ الباسقةِ واستثنائيَّةُ التَّعبيرِ الفذِّ المتمثِّلِ في العلاقةِ الإنشائيَّةِ المعنويَّةِ المدهشةِ الَّتي تربطُ مفرداتِ شريحتِهِ الكلاميَّةَ الفاخرةَ.

شاعرُنا المحدثُ بامتيازٍ قدْ زرعَ في تربةِ الشِّعرِ الأصيلِ بذرةَ الحداثةِ ورواها بثقافةٍ غنيَّةٍ نبتَتْ مِنْ ثناياها معلَّقاتٌ ستنثرُ عبقَها وترسلُ إلى الأبدِ لمعانَها مِنْ على حيطانِ الخلودِ.

نعمْ , شاعرُنا صنعَ شعراً مِنْ شعورٍ موجعٍ أرَّقَهُ كثيراً فكانَ أنِ  ازدهرَ وتألَّقَ  .


ملحقٌ في النَّسيبِ عندَ شيحانِ القصيدِ

.وهذهِ قصيدةُ

           "عليلُ الهوى" 

وهيَ في الأصلِ غزليَّةٌ رشيقةٌ لكنَّها كما سنرى ذاتُ أبعادٍ شعريَّةٍ متعدِّدةٍ. كما قالَ سلطانُ العاشقينَ

هُوَ الْحُبُّ فَاسْلَمْ بِالْحَشَا مَا الْهَوَى سَهْلُ

فَمَا اخْتَارَهُ مُضْنًى بِهِ وَلَهُ عَقْلُ

للهِ درُّهُ شيحانُ القصيدِ الأريبُ , مِنْ وقعِ حروفِهِ يرتدُّ صدى قولِ ابنِ الفارضِ في المخيِّلةِ وينقبضُ نبضُ القارئِ مِنْ شجنِها وشحنةِ ألمِها .

لقدْ برعَ شاعرُنا في قرضِ الوطنيَّاتِ والوجدانيَّاتِ , ولانَتْ لَهُ الحروفُ كالحديدِ لداوودَ وها هو قدْ طرقَ فلكَ النَّسيبِ , وهوَ أبعدُ ما يكونُ في فكرِهِ عنِ الشِّعرِ الفاحشِ والإباحيِّ ..

   نعمْ , شاعرُنا النِّحريرُ المُحدَثُ قدْ أشبعَ حروفَهُ بفلسفةٍ أخلاقيَّةٍ وفكرٍ دينيٍّ وسياسيٍّ ينضحانِ بقيمٍ عربيَّةٍ إسلاميَّةٍ راقيةٍ وهيَ أشدُّ ما نحتاجُ إليهِ في عصرِنا الماديِّ هذا، عصرٍ فيه غزَتْنا الحضارةُ الغربيَّةُ بأوبئةٍ أخلاقيَّةٍ نالَتْ مِنْ جسمِ أمَّتِنا ما نالَتْ مِنْ تخريبٍ وإفسادٍ.

ويبقى حرفُ الشَّاعرِ جنديّاً مجهولاً في هذهِ الحربِ الحضاريَّةِ الباردةِ ومنْ هُنا فإنَّ شاعرَنا وإنْ كتبَ في الغزلِ الحبِّ  والعاطفةِ , فقدِ احتوى الموقفَ وما احتواه الموقفُ .

نعمْ إنَّ شاعرَنا على قدرٍ مِنَ الجديَّةِ والمسؤوليَّةِ الأخلاقيَّةِ حتَّى صبَّ حروفَهُ العذريَّةَ في قوالبَ عفيفةٍ شريفةٍ قدِ ارتقَتْ بالمعشوقِ إلى مصافِّ العفَّةِ والطُّهرِ! 

الشَّاعرُ الفذُّ يكونُ كالممثِّلِ القديرِ الَّذي  عليهِ أنْ يتقنَ أداءَ كافَّةِ الأدوارِ التَّمثيليَّةِ , فعليهِ( الشَّاعرَ) إتقانُ شتَّى أجناسِ الشِّعرِ.

الغزلُ تعريفاً هوَ اللّهوُ معَ النِّساءِ , وهوَ الخفَّةُ العاطفيَّةُ وقد قيلَ للظبِّي غزالاً لخفَّةِ حركتِهِ كذلكَ غزلُ شاعرِنا العفيفُ العذريُّ الشَّريفُ فيهِ مِنَ الخفَّةِ ورشاقةِ التَّعبير ,انظرِ  العنوانَ .."عليلُ الهوى" كلماتٌ هوائيَّةٌ خفيفةٌ رشيقةٌ شجيَّةٌ.. لكنْ سرعانَ ما تتكسَّرُ هذِهِ الخفَّةُ  بهشاشتِها على صخرِ معانيهِ وفكرِهِ النَّاهضِ , فها هو يستهلُّ بثنائيَّةِ التَّلذُّذِ بالألِم في الحبِّ masochism:


الرُّوْحُ فِي جَسَدِي تَلِذُّ لِرَابِضِ

لَكِنَّهَا أَلَمٌ لِقَلْبِي النَّابِضِ


يَا لهُ مِنْ عاشقٍ يلتذُّ بألمِهِ!

    موضوعٌ تناقَلَهُ شعراءُ القلوبِ وما اختلفوا فيهِ , فالعاشقُ يلتذُّ بمرارةِ الشَّوقِ .عدا عنِ المعاني والفلسفةِ المكثَّفينِ في هذا البيتِ , لننظرْ إلى التَّصويرِ المدهشِ , فالشَّاعرُ يصفُ المعشوقَ بالرَّابضِ ..يا لَهُ مِنْ وصفٍ , يا لَها مِنْ كلمةٍ..

فالرَّابضُ يقصدُ أنْ يربضَ دونَ تحلحلٍ حتَّى يتمكَّنَ مِنْ غريمِهِ! والرَّابضُ لفظاً ثقيلٌ والرُّبوضُ يأتي مُتعمَّداً ومقصوداً لكنْ عجباً فروحُ الشَّاعرِ تلتذُّ بهذِهِ القعدةِ الثَّقيلةِ , وإنْ لحقَهُ مِنْها ألمٌ وأوجاعٌ!! وكأنَّ الشَّاعرَ يرحِّبُ بزائرٍ ثقيلٍ , لماذا؟

لأنَّهُ كما يستطردُ ويقولُ :


لَكَ فِي الْفُؤَادِ مَحَبَّةٌ رَقْرَاقَةٌ

أَوْدَتْ بِنَا غَرَقاً بِبَحْرٍ غَامِضِ


    الحرفُ رقراقٌ والاستعارةُ بعمقِ الغموضِ الَّذي يكتنفُ بحرَ الشِّعرِ .. غموضٌ لأنَّ الشَّاعرَ يغرقُ بإرادتِهِ  في بحرِ الحبِّ !كيفَ يأتي الحرفُ عندَ شاعرِنا , كيفَ يستجلبُهُ الإحساسُ والعقلُ مدبرُهُ؟

       إنَّهُ غموضُ بحرٍ ثقيلٌ معناه وعميقٌ  بثقلِ القافيةِ المُميَّزَة وبعمقِ المعنى الرَّابضِ في فكرِ البشرِ ولمَّا يحلَّلُوه ويفهمُوه ألا وهوَ كيفَ يقبلُ المحبُّ الغرقَ في متاهاتِ الحبِّ؟

شاعرُنا محدثٌ ولا يخلو حرفُهُ مِنْ فكرِ وثقافةِ عصرِهِ الحاليِّ

فتطرُّقُهُ لقضيَّةِ الحبِّ وتعقيداتِهِ  في خفايا النَّفسِ البشريَّةِ جاءت متأثِّرةً مِنْ مفهومِ السَّعادةِ في علمِ النَّفسِ الحديثِ :

سعادتُهُ تأتي مِنْ رضاهُ وقبولِهِ .

نعمْ , إنَّ شاعرَنا وإنْ رفضَهُ الحبيبُ وإنْ توالَتْ أيَّامُ الرَّفضِ أوِ القبولِ فهوَ قابلٌ راضٍ بالموجودِ لا ينشدُ ولا يطمحُ لغيرِهِ وهكذا فهوَ يوازنُ نفسَهُ ونفسيَّتَهُ ليبلغَ أرقى درجاتِ الحبِّ الصَّادقِ , يقولُ شاعرُنا :


فَسَعَادَتِي يَوْمٌ وَيَوْمٌ نِدُّهُ

مِمَّا اعْتَرَانِي مِنْ خَلِيْلٍ رَافِضِ


واضحٌ التَّشابُهُ بينَ رؤيةِ الشَّاعرِ و نظرةِ عالمِ النَّفسِ كارل يانغ Jung لمفهومِ السَّعادةِ , فحسبَ يانغ إنَّها أنْ يفهمَ المرءُ نفسَهُ ونوازعَها يتعايشَ معَها براحةٍ ويزيلُ التَّوترَ الحاصلَ مِنْ  تناقضاتِ رغباتِ الأنا واللاشعورِ وصولاً للتَّوازنِ النَّفسيِّ المُؤدِّي للسَّعادةِ أوْ قلْ اللحظاتِ السَّعيدةَ.. ..وشاعرُنا يفهمُ ويعلمُ ما يريدُه مِنَ الحبيبِ ومِنْ شغفِهِ بِهِ يبيدُ هذا التَّوترَ الدَّاخليَّ  بإبداءِ الرِّضا التَّامِّ  في الصَّدِّ  والرَّفضِ .

شاعرُنا يتعايشُ معَ نفسِهِ ويوجِّهُها إلى القبولِ والرُّضوخِ لرغباتِ مَنْ يحبُّ. في هذا السِّياقِ يحضرُني قولُ المتنبِّي

وَبَيْنَ الرِّضَا وَالسُّخْطِ وَالْقُرْبِ وَالنَّوَى

مَجَالٌ لِدَمْعِ الْمُقْلَةِ الْمُتَرْقْرِقِ

وكأنَّ الدَّمعَ قدْ وُجِدَ لتقبِّلِ السَّخطِ والصَّدِّ بدمٍ باردٍ وانصياعٍ تامٍّ.


قدْ بلغْنا نهايةَ القصيدِ وكانَ النَّسيبُ عفيفاً والحرفُ نقيّاً لا جسمانيّاتٍ  ولا تصويرَ حسّياً بغيضاً

بلْ يستنجدُ الشَّاعرُ باللهِ لطفاً بمصيرِهِ  والأجملُ تكملةُ العنوانِ فصارَ الختامُ :


عليلٌ في الهوى متمارضٌ..


رجعْنا لإينيغما enigma  الموقفِ أيْ غموضِهِ  فالعاشقُ متمارضٌ وليسَ مريضاً لوزنِ الفعلِ تأثيرُهُ وأسبابُهُ وهل يستوي الآمرُ والمتآمرُ!!

.قد أوسعَ الشَّاعرُ الموضوعَ جوانبَ وأبعاداً أثرَتِ القصيدَ وأغنَتْهُ معنويّاً وفلسفيّاً وأدبيّاً فالشَّاعرُ مِنْ جماليَّاتِ الشِّعرِ  واللفظِ ما بخلَ حيثُ قالَ :


فَكَأَنَّنِي وَكَأَنَّهَا أُرْجُوْحَةٌ

ذَهَبَتْ وَعَادَتْ مِنْ أَكُفِّ الْقَابِضِ


ومِنَ البعدِ النَّفسيِّ أتحفَنا , فقالَ:


وَمَرَارَةُ الْأَشْوَاقِ بُرْكَانٌ لِمَا

فِي النَّفْسِ مِنْ وَلَعٍ وَوِدٍّ فَائِضِ


وفي البعدِ الفلسفيِّ أدهشَنا الشَّاعرُ حينَ قالَ :


لَمْ نَدْرِ كَيْفَ نَجَاتُنَا إِذْ إِنَّنَا

لَسْنَا نُمَيِّزُ فِيْهِ سِرَّ تَنَاقُضِ


تساؤلٌ حولَ جهلِ طرقِ الخلاصِ وانعدامِ التَّمييزِ , فللخلاصِ سبلٌ منعَتْها صعوبةُ التَّحليلِ والالتباسُ الرَّاسخُ في سرِّ التَّناقضِ.

التَّناقضِ الكامنِ في رغبةِ الرُّوحِ وقبولِها لرابضٍ في النَّبضِ يؤلمُها.


إذاً فهنالِكَ تناقضٌ غامضٌ , والسِّرُّ ما عرفَهُ المحبَّانِ .الطَّريقُ واضحٌ والقرارُ جريءٌ والاصطلاء مقبولٌ عليهما..

وكأنِّي بِهِما هاربانِ أمامَهُما البحرُ يحدِّقانِ ببعضٍ وتهمسُ نظراتُهما قائلةً: "لِنقفزْ"!.. 

إنَّهُ فعلاً تناقضٌ , لكنَّهُ في الخيالِ فالقفزةُ كانَتْ إلى بحرِ النَّجاةِ بحرِ القريضِ الَّذي يخلِّدُ أبياتَ الشِّعرِ العذريِّ كما خلَّدَ توبةَ وقيساً والآنَ شيحانَ القصيدِ اللامعَ.

نافلةَ مرزوقٍ العامرِ


ليست هناك تعليقات