قراءة النّاقدة نافلة مرزوق في قصيدة."من أنت ؟ “ للشاعر محمّدعلي المدن

قراءة النّاقدة نافلة مرزوق في  قصيدة.من أنت ؟ “ للشاعر محمّدعلي المدن


قراءة للأستاذة النّاقدة نافلة مرزوق 


"من أنت ؟ “.
شاعريّة طافحة
في رحلة روحيّة
تنقذ النّفس
من الهلاك الرّوحيPerdition
وترقّيها إلى عالم الخلود
Immortality of the soul
تساؤل فلسفيّ
في قصيدة تعليميّة
Didactic poem
كيف تنقلب الرّوح على الجسد
عند المشيب
كيف يؤزّلنا القصيد..
قراءة:نافلة مرزوق العامر
في قصيدة
"من أنت؟"
للشّاعر الأريب
العراقي محمّدعلي المدن
Mohammed Ali Almadan
في الحكمة والأخلاقيّات فلسفةً وفي الرّقة وعمق المعنى شعرا أتت رائعة شاعرنا الجهبذ.من هنا جاءت أسلوبيّا في خطاب تساؤلي يحثّ على التّأمّل والبحث وطرح السؤالات فالعنوان هو سؤال "من أنتِ"؟ وما الشّاعر الحقيقي إن لم ينظر إلى ما حوله مستفهما مستفسرا مستكشفا في نظرة إنتقاديّة وعقل متّقد يبدّد ظلمة الجهل ويرقّي النّفوس لآفاق الرّوح الواعية؟
ومن هنا جاءت جزالة اللّفظ واختصاره ببلاغة طاغية وتكثيف المعاني في أعذب العبارات ليستسيغها القارئ وتمكّنه من رشف وهضم المعاني بأقصر مدة زمنيّة ينكّهها سبك مخمليٍ رنّان من شأنه جذب المتلقّي للإستمرار في القراءة دون ملل أو شكوى بل بتشوّق ومتعة.
نعم لقد برع شاعرنا حين اختار أسلوب الخطاب العقلي حيث الموضوع يدعو للتّأمّل والتّفكير وهو فلسفيّ بحت محوره ذلك الصّراع الأبدي بين الرّوح والجسد فهو موضوع في جوهره فلسفي وفي توجّهه تربويّ يضاف إلى ما يسمّى بالشّعر الإرشادي .شاعرنا في قصيدته الرّائعة كما سنرى يبحث عن ذاته من خلال سؤال فلسفي "من أنت؟" ويأخذنا للإجابة عنه في رحلة روحيّة شعريّة تطفح بالتّعبير الرّقيق الرّقراق والتُصوير الفذّ المتصبّب من ينابيع الموهبة الشّعريّة الفذّة فالصّورة الكبرى(imagery) هنا هي رحلة رمزيّة في البحث عن الذّات وبالتّحديد عند قدوم المشيب.
نعم إنُها رحلة أخلاقيّة يصبو فيها الشّاعر إلى الإنتساب إلى عالم الرّوح والعقل محرّرا نفسه من قيود الجوارح والحسّ .رحلة يرشدنا فيها شاعرنا إلى قيمة الفكر والتّعقل حين تزحف الشّيخوخة إلى أبداننا ويثبت لنا فيها تفوّق النّفس على النّفس وهيمنة العقل الذي لا يشيخThe unaging intellect على الجسد الواهن المتآكل في أمعاء الزّمن ..برع وأيّ براعة وكم يحضرني هنا قصيد W.BYeats المشهور "Sailing to Byzantium" (حيث في رحلة مشابهة معنويّا في كثير من الوجوه وليس كلّها) يشكو فيها العقل أو الرّوح عند المشيب ورغبات المادّة في وهن الأعضاء قائلا ,"the heart is fastened to a dying animal"أي إنّ القلب والرّوح في هذا الجيل مصفّدين بحيوان يحتضر والحيوان هنا يرمز لرغبات الجسد.نعم يشكو من تلاطم النّزعات في النّفس وضعف البدن عن تنفيذها.
العنوان :
"من أنت؟"
باهر فشاعرنا نحرير متمكّن من أدواته عالم بالشّعر وأحواله.نعم عالم بتفاصيل القرض الباهر فالسّؤال ذاته يطوي إجابته في ذاته بمعنى أنّ المخاطبة وهي "أنتِ" قد تنوب عن "ملكة الشّعر" ذاتها..!
إذا يكون تحرير النّفس بالفرار إلى لذّة الإبداع الفكري والفكر بحد ذاته خالد ومخلّد فكم من مبدع مات جسدا وخلد فكرا.
يا لروعة المعاني وحكمة الزّمان في فنّ السّؤال!
سنرى لاحقا كيف ينقلب العقل أو الرّوح على العاطفة أو الجسد .سنرى كيف يدحر شاعرنا طفلته متصنّعة الحب كما يراه وينحاز لجانب التّعقل المناسب لجيل المشيب.هو تناسب طردي بين تقدّم الجيل وهزم النّزوات .يقول:
مَن أنتِ؟ بلْ... مِن أينَ جئتِ إلـيَّ؟
تـتـصـنـعينَ الــحــبَّ بــيـنَ يَــديَّ
مــــا أنــــتِ إلّا طــفـلـةٌ مــغـرورةٌ
لـــم تـعـرفـي لـلـحبِّ بـعـدُ سـمـيّا
إذا هي طفلة مجهولة الوطن جاهلة بمعاني الحبّ معاندة مغرورة أوليس الإنسان بفطرته يميل للخير والشّر أوليس البعض يميل للخير أكثر وينهر براثن الشّر الوحشيّة كما فاعلها هنا شاعرنا؟ قلنا هي مشاكسة مورّطة وهو بالمقابل:
وأنـا أشـابَ الحبُّ رأسَ قصيدتي
مُـــذ كــانَ عــودي يـانـعاً وطـريّـا
وأنـاخَ رحـلُ الـشِّعرِ بـينَ جوانحي
وتـنـفّـسَـتْ رئــتــاهُ مِــــن رئــتـيَّ
جماليّة التّصوير باذخة وتشبيه فذّ فالشّعر " رحل" والرّحل رحلة واستكشاف معالم ومعاني ،رصد تجارب، وجمع خبرات..إنّها نضوج في سفر..كلّ هذا الثّراء الوجودي حطّ ركبه في رئة الشّاعر!! فهو الشائب الذي أشاب مفارقه الحبّ حتى نهل من معانيه مذ كان عمره نديّا عصير القصيد وجرعات الشّعر فاختلطت في شخصه كاختلاط الماء في الدّم وبات هو والشّعر يتنفّسان من ذات الرّئة توحّدا في كيان روحي روحاني منفرد متفرّد.مدهش تنفيس القصيد حتى يغدو كائنا بل أداة وآليّة خلود فنّيّة..كأنّه يقول أنّنا نخلد بالقصيد..وكم صدق..فجوانح الشّعر تحتضن الوجود ..دون شكّ!
كيف لا وقد قال:
أومـا رأيـتِ الـحرفَ كيفَ تدفّقتْ
أمــواهُــهُ كـالـنـبـعِ مِــــن شـفـتـيَّ
تحدّثنا عن انقلاب العقل على العاطفة وها هو شاعرنا ينبئنا بانقلاب من نوع آخر هو انقلاب أو انتصار حيويّة العقل والفكر على هشاشة الجسد في المشيب وكأنّه يقول لنا بأنّه كلّما زدنا عمرا ووهن الجسد علينا اللّجؤ إلي حيويّة العقل وإحياء وتأجيج الفكر فهما ليسا بأقلّ فائدة ولذّة،أنظر إلى
ذلك التّناسب العكسي بين تقدّم العمر وتقهقر الجسد وتضعضعه من جهةوإشغال العقل وإشعاله من أخرى.فها هو يردعها طالبا منها الإعتكاف عن مطاردته وإغراءه:
كُـفّي فـإنّ الـشَّيبَ خضّبَ لحيتي
فـمِـن الـمـحالِ بــأنْ أعــودَ صـبـيّا
ومِـن الـمحالِ بـأن تَـوقَّدَ جـذوتي
مـهـما نـفـختِ، ولــن أعــودَ سَـنِيّا
يا له من تعبير تفاؤليّ قوله "خضّب لحيتي" برأي شاعرنا أن للشّيب لون جميل يصبغ الجسد والرّوح بجماليّة مميّزة تعلن نضوحا زمنيّا وعقليّا من شأنهما بثّ الروح بحيويّة مستقاة من عقل ناضج قد استوعب معاني الحياة وعلم ،"من هو" "ما هو" و"ماذا يريد" أوليس هذا هو الجواب؟
أوليس من أجل هذه الإجابات نحيا الحياة؟
أوليس فيها نطبع على أرواحنا ونحفر في وجدان الحياة أحقيّتنا بالعيش ؟
العيش الكريم
العيش في حياة تستحق أن تعاش لرقي توجّهها وسموّ أهدافها!!
"من أنت؟" إذا تكون "من هو" فهو من سؤاله النّابع من نفاذ صبره ولأنّه شخص يعلم غايته ولا يصبر على أيّ معرقلات من شأنها أن تؤخّره عنها تسليه أو يسهو بسببها عن بلوغها..هي إذا "اللّاشيء " هي نزوة عابرة وضعف عاطفيّ مؤقّت يحتلّ النفس برهة وما يلبث أن يتبخّر كغيمة صيف تهرب من صفاء الجوّ..نعم هو نفس صافية لن يكدّرها بعد إحساس بالضعف والإنهيار أمام المغريات.
نعم يتوّج شاعرنا قصيده بمعاني النّصر والتّعالي .التّعالي عن الإنقياد لرغبات الحواسّ المقيمة أبدا في جحور الضعف والإنحلال وليس عبثا تشابه الجذر مع التّحلل فهو يأبى الفناء في تحلّل الجسد ويرنو إلى البقاء في سماوات الرّوح الخالدة حيث تسبح قصيدته وهو أبدا هناك في عوالم الطّهر والنّقاء.
فجذوته ما عادت تضطرم من نفخات الحسّ والشهوة بل توقدها نفحات الشّعر الطّافح حكمة وفكرا في شاعريّة تتناقلها الأجيال إلى ما لا نهاية.يحضرني هنا قول أبلج على لسان المتنبّي في نفس السّياق المعنوي حين قال:
"وقد أراني الشّباب الرّوح في بدني
وأراني المشيب الرّوح في بدلي".
نعم لقد صدق شكسبير حين قال" أنّ النّضوج هو كلّ شيء"
" Ripeness is all"
وصدق هنا شاعرنا في إظهاره بنضوح شعري معنوي يقطر جمال سبك وجماليّة تصوير.

Stella Ra Nch

ليست هناك تعليقات