العَتّال قصة قصيرة بقلم شعبان منير
العَتّال
قصة قصيرةبقلم /شعبان منير
حصل على شهادة البكالوريوس في إحدى الكليات المرموقة، لكنه لم يجد عملًا.. قدَّم أوراقه إلى العديد من الجهات..
بلغ منه الإعياء مداه..
ألم النفس والروح يقطع كرامته بسكين باردة، وينشب أظافره في مُخِّهِ..
يجذب نفسًا عميقًا، ويزفُرُهُ، ومعه دمعة فرّت رغمًا عنه..
حاله لا تسرّ، وموقفه حَرِجٌ أمام والديه..
أبوه يلومه على هذه المِهْنَةِ، ويردُّ عليه في إحباطٍ، ويأسٍ:
- أفضل من أن أجلس كالنساء في البيت!
- يا ولدي لديك شهادة تجعلك ملكًا بين أقرانك، فلماذا تحبس نفسك وتذلّها؟ أنت لم تُخْلَقْ لهذا..
يردّ في كَمَدٍ وحسرة: أخبرْني ما الذي خُلِقْتُ أنا من أجله؟! على يدك، لقد سعيت خلف الوظيفة المحترمة المرموقة، ولم أجْنِ من سعيي هذا إلّا السراب..
- حاوِلْ مرات، ومرات يا ولدي. قال أحد الشعراء، وأظنه "أبا القاسم الشابي":
وَمَنْ يَتَهَيَّبْ صُعُودَ الْجِبَالِ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الْحُفَرْ
تركه مُحْبَطًا، مُنْهيًا المناقشة.. مستديرًا إلى غرفته:
- طيب!
نام على ظهره، كأنه يريد أن ينام بلا قيام.. إن الموت أفضل له من "مِهْنَةِ العِتَالَة"، لكن ما باليد حيلة..
الفِكَرُ تهجم عليه، وتأكل عقله!
فتح "الفيسبوك".. لاحظ إعلانًا لشركة خاصة في أكتوبر.. ابتسم ابتسامة ساخرة، -وفي محاولة ضمن عشرات من محاولاته اليائسة- قال لنفسه: لن تخسر شيئًا.. اكتب الميل، وابعث السيرة الذاتية، والدورات، واللغة..
لديه "ملف وورد" على الجوَّال، استدعاه بضغطةٍ واحدة، وحمَّله مع باقي متطلَّباتِ الوظيفة إلى ميل الشركة..
بعدها نام مرهقًا متعبًا من التفكير...
في الصباح أخرج العجلة الحديدية من مكانها الذي يضعها فيه.. لا يزال ألم الروح يتعالى؛ لكنه وأده مؤقّتًا..
في السوق يحمل البضائع على ظهره، وكتفه.. يقضي هناك سحابة نهاره..
يذهب إلى البيت، وأزيز أعضائه لا يتوقّف.. يحسّ فَرَسًا تمرح في عقله.. يرمي نفسه على سريره، وينفجر باكيًا.. رماح تسدَّدُ لروحه المثقلة بأثقال لا يستطيع حملها..
بعدها بأسبوع، يَرِنُّ الجوّال رنَّاتٍ متتابعةٍ، الرقم لغريب مجهول، لم يضع له اسمًا من قبل.. على الجانب الآخر هناك مَنْ يعرِّف بنفسه:
- معك"---" من شركة"---" للمقاولات.. جاءتنا منك سيرة ذاتية تطلب فيها عملًا.. لقد درسناها، ويسعدنا أن نلتقيك في مقرِّ الشركة في تمام الساعة الثانية عشرة يوم الخميس المقبل بإذن الله.
لم يصدقْ نفسه بعد أن أنهى المكالمة..
بشَّر والديه، فطارا فرحًا.. بكت أمه غير مصدقة، وهوى أبوه على الأرض ساجدًا..
ذهب إلى أحد المحلات، واشترى بدلة مناسبة، وراح يستعد................
صحا مبكرًا يوم الخميس، وظلَّ يصلّي في الضحى حتى حانت الساعة الحادية عشرة. لبس البدلة، وتأنَّقَ أمام المرآة، ووضع عطرًا مناسبًا.. وطلب إحدى شركات التاكسي ليلحق بالموعد..
تمتم بآياتٍ يستمدّ بها من الله العون، والمدد.
حاول التماسك، وتهدئة نفسه.. قال لها: الثبات الانفعالي هو المفتاح، استعن بالله، ولا تعجز.. هدأت نفسه، وحان اللقاء..
- تفضل، مستر حازم سوف يقابلك..
تفتح السكرتيرة له الباب، فيدخل في رَهْبةٍ، وذُعْرٍ.. يجد شابًّا في الخامسة والثلاثين... يبتسم له ابتسامة رقيقة، ويشير إليه بالجلوس بعد المصافحة:
- أهلًا وسهلًا تشرَّفت بلقائك..( ذوقه وسماحته أجبراه على التماسك والهدوء).
يكمل حازم المدير قائلًا: لاحظت أنك دَوَّنْتَ في السيرةالذاتية كثيرًا من الدورات، ولغتك جيّدة جدًّا... أنت ممتاز.. ما شاء الله!
حدثته نفسه:
( هذا تقدُّمٌ ملحوظ، ويختصر الطريق، ويمهّد لأحداث لها شأنها خلال الدقائق المقبلة).
تحدث إليه ببعض الجمل في المجال بلغة إنجليزية متراصَّة.. وسأله مسترسلًا باللغة نفسها: ما الخطط المستقبلية التي تضعها لشركتنا لتحسين العمل، وتحقيق ضعف الربح ؟
استجمع خلال ثوانٍ خطته المسبقة التي أعدَّها؛ لأنه توقع سؤالًا كهذا..
انثالت منه الكلمات بإنجليزية مركزة، وواعية، وثابتة..
هزّ المدير الشاب رأسه أمامه معجبًا..
انتهي اللقاء بقرار التعيين، وأتمَّ المدير كلامه:
- أبارك لك، فأنت معنا في فريق العمل... أرجو أن تذهب إلى قسم "الموارد البشرية"؛ لاستكمال أوراق التعيين..
أحسّ بجناحين ينبتان له، كأنه يحلّق كطائر "الرُّخّ" في السماء، وملأت الابتسامة شَدْقَيْه، وصافح المدير بحرارة، واستدار للخارج..
أراد أن يقفز، ويغني، ويبكي، ويصرخ.. كلّ هذا في آنٍ واحدٍ.. حالات متضاربة ومشاعر فيَّاضة انسكبت في روحه... يريد أن يقبِّلَ الزَّهر، والسيارات، والأبواب..
دخل البيت وقبَّل أمه، واحتضن أباه... أخبرهما بما حدث... لمعت أعينهما بدمع كاللؤلؤ...
بعد خمس سنوات
تبدَّلتْ حاله، واشترى "فيلَّا" في أحد المجتمعات الجديدة... سيارته الفارهة تبهر العيون...
أبواه يجلسان في الحديقة يسعَدان بشمسٍ دافئةٍ.... يقبّل أيديهما شاكرًا فضلهما، ثم يحتضن ولده الذي كان يلعب في حِجْر جَدَّتِهِ، ويحيّي زوجته ملوِّحًا..
ها هو يتقدّم إلى سيارته.. يجلس ناظرًا إلى السَّماءِ الرَّحْبَة.. وابتسامة رضا تنطق على محيَّاه..
يدير المفتاح، ويتمتم "بسم الله",,,
منطلقًا إلى شركته التي أسسها
التعليقات على الموضوع