سحر البيان...جبران خليل جبران

 

سحر البيان



جبران خليل جبران


مبدع .. عانقت مخيلته العالم بالأفكار الروحانية ، وفلسفة المحبة ، وشاعرية الحكمة ، والدعوة الموصولة إلى تعزيز سَمْت الإنسان وتكريمه من خلال ما هو مشترك بين قَيَم الأديان السماوية .. تحوّل إلى رمز إنساني عام ..
خلطة عجيبة من الشعر والإحياء اللغويّ ، والتصوّف الأسطوري ، وفلسفة بناء الروح ، وهندسة المحبة ..
أعطني الناي وغنِّ .. فالغنا سرّ الخلود
وأنين الناي يبقى .. بعد أن يفنى الوجود
هل تَخَذت الغاب مثلي .. منزلاً دون القصور
فتتبّعت السواقي ... وتسلّقت الصخور ..
هل تحمّمتَ بعطر ... وتنشّفتَ بنور ..
وشربت الفجر خمرًا .. في كؤوس من أثير
أعطني الناي وغنِّ . .. وانْسَ داءً ودواء
إنّما الناس سطور .. كُتبت .. لكن بماء ..
.......
جبران خليل جبران (6 يناير 1931 – 10 أبريل 1883 م) شاعر وكاتب ورسام لبناني من أدباء وشعراء المهجر ، ولد في بلدة بشري في شمال لبنان ، ونشأ فقيرًا ، ولم يتلقَ التعليم الرسمي خلال شبابه ، لأنّه هاجر صبيًا مع عائلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، ليدرس الأدب ، وليبدأ مسيرته الأدبية ، والكتابة باللغتين العربية والإنجليزية ..
يعدّ جبران خليل جبران من كبار شعراء المهجر وأدبائها ، ومن أوسعهم حضورًا في ضمير عصره ، حيث يستطلع حقائق الوجود ، ويقرّرها ببعض الحدّة والانفعال .. ويتّسم أدبه بالروحانية الشاملة . عانق خياله الرومانسي في الطبيعة أسرارًا عميقة ، ونظر للوجود نظرة واجمة سوداء ..
حبُّه للطبيعة كان له أثر كبير في بناء شخصيته ، هي ( الطبيعة ) ينبوع شعره وإلهامه .. نفذ أدبه إلى صميم الحياة ، وذلك بفضل تأمّله الدائم في الطبيعة ، وملاحظته الدقيقة للحياة ، كان يظلّ الساعات الطويلة يحلم بين مناظر الطبيعة ، ويتفهّم أسرار جمالها .. وهذا ما نلمسه في قصيدته الخالدة " المواكب " التي تجسّدت فيها كلّ المعاني الخالدة والخلجات الصادقة الدافئة ..
أحبّ جبران الليل ، لأنه مُلِئ بالأسرار وأفرط بوصفه ؛ فخواطره تثور في هدْأة الكون حين تبدو الظلمات مشوبةً بأضواء شاحبة في طريقها إلى الفناء ، وهذا الفناء هو من يذكي الشعور بالموت ، ويفتح أمام الشاعر نوافذ الأحلام ، لأن الحقائق تتجلّى على مسارح الأحلام .. يقول في قصيدة سكن الليل :
سكن الليل وفي ثوب السكون تنتشي الأحلام
وسعى البدر وللبدر عيون ترصد الأيام
إن الليل عند الشعراء الصوفيين يوحي بالانطلاق والتحرر ؛ لأنّ النهار تتجلّى فيه الموجودات المحددة المعالم ، في حين أنّ الليل يمحو هذه الحدود ، فيرتفع ستار الأسرار عن النفس بالإشراق الروحيّ والأحلام ..
وجبران هو من أكبر الشعراء الذين وضعوا أساس الرومانسية الجديدة في الأدب العربي ، وصوره الجمالية الفنية أكثرها مشتقة ومستمدة من الجو الذي كان يعيش فيه بالفعل والوجدان .. وشعره ينبض بالخمرة ، ليس التي نعرفها ، بل الخمرة الصوفية التي تغنّى بها ابن الفارض من قبله ، وهذا ما نلمحه ونجده بوضوح في كتابه " النبي ".
نحسّ ونحن نقرؤه بأننا اقتربنا من هذا الأسلوب النبويّ الذي يتقمّص فيه صاحبه شخص المُوحَى إليه بأسرار الحياة . فهو يرمز في الشعر المنثور ببدائع الخيال والوجدان عن القيم الروحية العليا ..
يمكننا القول أن أدب جبران خليل جبران هو مناخ صوفي ، يحول الشعر إلى عالم يُرَقّدُه الوجد والشوق والحنين ..
فِكرُ جبران روحانيٌّ بالشكلِ والتعبيرِ والمضمون ..
كان جبران مؤمِنًا بالله رغم أنّه انتقدَ المؤسّسةَ الدينيّة ورجالَها ( لأجنحةُ المتكسِّرةُ ). ثارَ على السلوكِ ولم يَـثُر على التعاليم ( الأرواحُ المتمرِّدةُ ) ..
مِن كُتبِ جبران يَفوحُ عِطرُ الروحِ أكثرَ مِمّا يَفوح من بعضِ الكتبِ الدينيّة . وينطبِقُ عليه ما أوصانا هو به :
" ليست حقيقةُ الإنسانِ بما يُظهِرُه لك ، بل بما لا يستطيعُ أنْ يُظهِرَه ، لذلك إذا أردتَ أنْ تعرِفَه فلا تُصغِ إلى ما يقولُ ، بل إلى ما لا يقول ، وها إني أخْبرتُكم بما لم يَستطِعْ أَن يقُوله " .
لقد فتح جبران في الشعر أفقًا جديدًا يتيح للشاعر أن يشده الشوق لمعرفة الأسرار ، وأن يبدع شكلًا جديدًا لما يحيط به .. وهذه من سمات نبوغه تُحسب له من بين المبدعين ..
مقتطفات من إبداعاته وحكمه سجّلتها من كتابه النبيّ والتي تصنع له بصمة رائدة في عالم الإبداع والنبوغ ..
أليست القيثارة التي تسكن لها نفوسكم هي هي قطعة الخشب التي حفرتها سكين؟ ..
إنكم لتستطيعون أن تكتموا صوت الطبول وترخوا أوتار القيثار ، ولكن من منكم له أن يأمر البلبل أن يكفّ عن التغريد ..
إذا أمسك صديقك عن الكلام ، ظلّ قلبك يُصغي إلى حديث قلبه ، ففي الصداقة تنبعث الأفكار والرغبات والأماني جميعًا في صمت ، وتشارك فيها النفوس في بهجة مضمرة ..
دعوا الحاضر يعانق الماضي بالذكرى والغد بالحنين ..
إنّ الجمال هو الحياة ساعةَ تكشف عن وجهها القدسي ..
القرآن الكريم في آثار جبران ..
لجبران مقالٍ يحمل عنوان « إلی المسلمين من شاعر مسيحي »
يقول جبران :
« أنا أجلّ القرآن ، ولكني أزدري من يتخذ القرآن وسيلة لإحباط مساعي المسلمين ، كما إنني أمْتهنُ الذين يتّخذون الإنجيل وسيلةً للحكم برقاب المسيحيين » .
وأيضاً إذا نظرْنا إلی كتابات جبران ، وتأملّنا في أقواله ، نجده متأثرًا بالقرآن الكريم من حيث الفكر ، ومن حيث الأسلوب الأدبي ..
فمثلا : نجد جبران في كتابه « النبيّ » يقول : « فإنَّ الحجاب المَسدُولَ علی عُيونِكم ، سترفعه الید التي حاكتْهُ »
ونظيره في القرآن الكريم : فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطآئَكَ فَبَصَرُكَ الیوْمَ حَدِيدٌ ..
ويقول جبران في القبح : « إذا كان القبح شيئًا ما ، فما هو في‌الحقيقة إلّا قشرة الصداء علی عيوننا ، والوقر في آذاننا » .
ومثيله في القرآن الكريم :
خَتَمَ اللهُ علی قُلُوبِهِم وَ علی سَمْعِهِمْ وَ علی أَبْصَارِهِمْ غِشاوَةٌ ..
وأيضًا يقول جبران في الكمال : « هذا هو العالم الكامل الذي قد بلغ أوجَه ، عالم الغرائب والمعجزات ، بل هوأنضجُ ثمرةٍ في جنانِ الله وأسمی عالم بين عوالمه » .
وتبارك الله سبحانه وتعالى يقول :
( وَ تَبَارَكَ الَّذي لَهُ مُلْكُ السَّمواتِ وَالْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ إلیهِ تُرْجَعُونَ ) .
هذه الملاحظات لبعض النقاد الذين درسوه بعمق .. والله تعالى أعلم .
ومن ضمن ما وجدته من آراء جبران ، رسالة تحت عنوان « إلی المسلمين من شاعر مسیحي » :
«.. أنا مسيحي ولي فخر بذلك ..
ولكنّي أهوی النبيّ العربيّ ، وأُكبّر اسمَه ، وأحبّ مجدَ الإسلام ، وأخشی زواله ، أنا شرقي ولي فخر بذلك ، ومهما أقصتني الأيام عن بلادي فأنا شرقي الأخلاق ، سوري الأميال ، لبناني العواطف ) ..
ويقول :
خذوها يا مسلمون كلمة من مسيحي أسكنَ « يسوع » في شطر من حشاشته ، و« محمدًا » ( صلى الله عليه وسلم ) في شطره الآخر ..
كل هذه الأمثلة تبيّن شوق ومحبة جبران إلی الدين الإسلامي والقرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو یذکر هذه المقدسات باحترام وكرامة .. وأكرر هذه وجهات نظر من قرأ وتوسّع في دراسته لجبران ..
وأخيرًا مات جبران بعد أن فتكت به الأمراض في لیلة العاشرة من نیسان سنة 1931م في مستشفی القدیس فِنْسِنْتْ ، وهو في غیبوبة ، والطبیب لایقدّر أنّه یعیش حتی منتصف اللیل ... وجبران علی فراش الموت سألته الراهبة :
هل أنت کاثولیکی ؟
فأجابها بنبرة قویة :
کلّا !!
فترکتْه وانصرفت .

رجاء احمد

ليست هناك تعليقات