غوص في قصيدة " صدى الأمس " للشاعر الفحل الأغر عماد احمد ..بقلم الناقدة:Stella Ra Nch نافلة مرزوق العامر

نافلة مرزوق العامر

غوص في قصيدة " صدى الأمس " للشاعر الفحل الأغر عماد احمد


**تجلّي تيار الوعي stream of consciousness في روعة إنسيابية ألأفكار والأساليب الإنشائية** ربما تكون أكثر قراءة منصفة للقصيدة هي بالنظر إليها من منظور تيار الوعي وتكنيك السرد المتداخل أي في شارع واحد بفرعين متوازيين الأول وهو نقل أفكار الشاعر الداخلية والآخر شكلي من ناحية التركيب والأسلوب السردي الذي اختاره الشاعر الفذ.والمدهش هو ما نلمسه من عبقرية ومهارة في مزج أفكاره ومشاعره مع الأسلوب الإنشائي الحاصل في كل بيت كما سنشرح لاحقا. هي بائية في ساقية حروف ماصدّتها تجاعيد سنين وما كسرها وهن خمسين وما صدأ قلبها الذهبي اذ فيه انطوى سر جلال العشق وبهاؤه. يبهرنا شاعر العرب الجهبذ في هذه الرائعة المضافة إلى روائعه المتعددة بحنكة شعرية في انتقاء أساليب بلاغته وإنشائه فقد خاط لكل معنى ولكل بيت أسلوبا ينسجم معه انسجام الزرقة مع السماء.نعم هو بحر شعر فيه التعبير الدرّي كامن راسٍ فلنسأل الأبيات عن ذلك.! سنكتشف في رحلتنا مع هذا القصيد كم من حنكة وبراعة تمتع فيها الشاعر في دقة اختياره للأسلوب الإنشائي المتماشي مع فكره وإحساسه في كل بيت وبيت وكل فكرة طرحها وهذا من عوامل تألق القصيد وسطوع الموهبة وتوهج يراع الشاعر شيء لا يتمتع فيه سوى كبار المبدعين يكفي مثالا على ذلك الكاتب الإيرلندي جيمس جويس ألذي نبغ في كتابات تيار الوعي ويُعدّ عند الأغلب كاتب وقاص القرن العشرين الأقوى على الإطلاق . بالنسبة للشاعر عماد فقد وجدت أنه كان عفويا تلقائيا في سرده قد أتخذ منحى تيار الوعي بحيث أتاح جريان الافكار والألفاظ بحرية تامة في قصيدته وهو الأسلوب الأصدق وهو المباشر وهو الأسرع للدخول إلى القلب والعقل..نعم لقد صك شاعرنا ذهبيته في أسلوب المباشرة والخبرية كمن يسرد قصته بتقدم حرّ دون عرقلة ودون أعتبار لأي ظرف خارجي كان فهو في الأخير مناجاة نفس لنفس عن نفس وكلهن معا نفس الشاعر. الفكرة المركزية للقصيدة إنكسار روح الشاعر الإبداعية واستعادة الثقة. تنقسم القصيدة في خدمة هذه الفكرة إلى ثلاثة أقسام وهم : ألاول: الأبيات حتى الرابع، فيه بحث عن وجود جدير بذاته بتساؤل وتعجب . الثاني من الرابع حتى الثامن فيه إخبار عن الماضي وتذكر بحسرة تشوبها لذة الإستذكار . الثالث من الثامن حتى الحادي عشر فيه وصف لبلية الدهر محنة الشاعر النفسية.وفيه ذروة السرد. الخامس وفيه الحل من الثاني عشر حتى البيت الأخير حيث امتطاء الصبر والعزيمة باستنهاض وحث نحو استرجاع الوجود الكريم أو رونق الشعر والحياة.لو نظرنا للقسم الأول: فيمَ انكِسارُكَ؟. فيمَ السُهْدُ والوَصَبُ؟ أَبَعدَ خمسين ما يخْبُو بكَ اللهَبُ؟ أَما اكْتَواكَ مَسيرٌ جُلُّهُ وَجَعٌ؟. والشاهدان عليكَ الوَهْنُ والتَعَبُ بكَ انكِسارُ غريبٍ مَجَّهُ وَطَنٌ وساوَرَتْهُ بجَدوى بَوْحِهِ الرِيَبُ وناكَفَتْهُ ظنونٌ ما تَهيدُ بهِ من شِدَّةِ البَأْسِ قلبٌ فيه مُنْشَعِبُ من أجمل البدايات في الشعر تكون الإستفهامية البلاغية العتابية..نعم فيها زخات من تشويق وجذب. يبدأ الشاعر حديثه ببحث وأسلوب استفهامي يساءل فيه نفسه فيم الإنكسار والتعب؟ برغم ما اعتراها من وصب فيم اللهب؟ وقد تعدت الخمسين!.إذا فهو تيار الوعي يتساءل في حديث داخلي ولكن مهلا فهو في البيت الثاني ينتقل لأسلوب اللوم والمعاتبة ويقول كيف لا يخفو اللهب ولا تكتوي الروح رغم التاريخ الحافل بالاوجاع؟وبليونة تفوق ليونة الموج يكر الشاعر فجاة أسلوبه وينتقل لإنشائية خبرية يعلمنا فيها الشاعر أن في نفسه هزيمة يخفيها ويخبأها كوطن يحرص على مواطنه وطن يرتاب من البوح فيما فيه وهنا يتبين أن الوطن هو قلب الشاعر الذي باتت روحه تشك بقدرته البوحية قلب أتعبته الظنون وتقلبت فيه شدة التشتتات والتشعبات نعم قلب تصدع بفعل العمر والشدائد فوهن قصيده.قلنا أن شاعرنا في تيار الوعي حيث الألفاظ تتزامن مع الافكار فينسا دون إعطاء التوقعات أي اعتبار وكأنه "انزياح" عن طبيعة التوقعات إلى طبيعة السرد الجاري بعفوية وانطلاق.نعم سرد يحاول ان يقبض على أفكار ومشاعر المبدع كما تجري في المشهد الواقعي دون تنميق أو تنضيد أو تنقيح فها هو ينتقل دون تنبيه القارئ لفظيا لانعطافة في الفكرة بكل حرية وكأنه ينتظر من خيال القارئ مزامنته وتفهمه فالأسلوب صار إخباريا والإنشاء غير طلبي وقد كان في القسم الاول طلبي غير حاصل في حس وذهن الشاعر ،يقول: في سالفِ العُمرِ فيما مَرَّ من زَمَنٍ كنّا وكانتْ بنا الآمالُ تنسَكِبُ إِذْ نَنْهلُ العَذبَ من أحضانِ ساقِيَةٍ وحولنا التينُ والرمانُ والعنَبُ والأَيكُ من فوقهِ الأطيارُ صادِحةٌ ولاهبُ الشمسِ بالأوراقِ يُحتَجَبُ سِرٌّ من العِشقِ حتى الآن أحفظُهُ طُهْراً بكلِّ جلالِ العشقِ ينْتَقِبُ هو أسلوب التحسر على أيام ومواقف مضت فقد كانت النفس شابة مفعمة بالاماني والأحلام وكانت الساقية تدور والأثمار وفيرة من تين ورمان والأيك فيها الأطيار تصدح محتفية بالحياة والأمان.لا يخفى على القارئ هنا أن المقصود بالساقية هو القريحة والموهبة واما الثمار فليس سوى القصائد الذهبية وليدة مرحلة "لاهب الشمس"أي مرحلةةالشباب السطوع وقمة العطاء فجأة وبحنكة وبراعة استثنائيتين تصل القصيدة ذروتها بالأسلوب الرمزي حين يقول الشاعر في البيت الثامن: "سر من العشق" "بكل جلال العشق ينتقب" ينبأنا الشاعر بأن لسطوعه وهيبته "كان" و"ما زال" سرا من العشق وهو بطبيعة الحال منتقب اذ لا سرا مفضوح ومكشوف لكنه سر من طهر ونقاء وغطاؤه جلال وبهاء..هذا السر لا زال معه.وهنا ينعطف الشاعر مرة أخرى وبغرابة إلى أسلوب التبليغ فيصف كيف تبدلت الأحوال وزارته الخطوب: غالَتْ يدُ الدهرِ ذاكَ العيشَ فانْخَلَعَتْ منّا قلوبٌ وأَوْدى بالصَفا الكَرَبُ تَعَسَّرَ الحالُ واجْتاحَتْكَ عاصِفةٌ واجْتَثَّكَ العَصفُ واسْتَشْرى بكَ العَطَبُ وراوَدَتْكَ بناتُ الدَهرِ لاغِبَةً فلو كشَفْتَ جبيناً تشهدُ النُدَبُ نعم نقرأ أعلاه أبياتا تصف محنة الشاعر في وصف ومجاز من أبدع ما يكون فصروف الدهر اضحت عاصفة وغالت وقست في هبوبها حتى خلعت القلوب وشحت دروب الراحة وعطبت الروح ووهنت من شدة البلوى.وهل من دليل أوضح على بطش الظروف من جبين كثرت ندبه! تساءل الشاعر عن سر اللهب واخبرنا عن سر العشق وشكى في نفسه بليته وها هو بسبك فذ واسلوب تهكم وتوبيخ ينقلنا نحو الحل!فالتساؤل يدحض التساؤل فها هو يتساءل ويقول في نفسه لنفسه مستنهضا عزيمته باعثا مجده : ياأَيُّها الواهِنُ المَمْهورُ من وَجَعٍ ماذا دهاكَ وحتى الآن تَرْتَقِبُ ماذا وقوفُكَ والأطلالُ خاوِيَةٌ خواءَ روحِكَ لا أهلٌ ولا نَسَبُ ولا نزيلةُ قلبٍ خانَها قَمَرٌ كانتْ حشاشَةَ روحٍ قَدَّها النَصَبُ فاسْتَنْزِلِ الدَمعَ من عينيك في وَجَلٍ وَخَلْ أحلامَكَ البيضاءَ تَنْتَحِبُ فما تَضَوَّرَ جوْعاً نَزْفُ أَوْردَتي وإِنْ تَبَرعَمَ فيها السُقْمُ والسَغَبُ وما يُهادِنُ موْجوعٌ أَضَرَّ بهِ تَطاولُ النَأْيِ والأهوالُ والحِقَبُ فَإِنْ تَغَوَّلَ وَجْدٌ فيك فالْتَمِسَنْ صبراً تلوذُ بهِ في الشِدَّةِ النُجُبُ مابينَ جنبيك ذكرى الحبِّ ماصَدَأَتْ وكيفَ يَصدَأُ من أَوْضارِهِ الذَهَبُ هو توبيخ للنفس للقلب"الممهور" إستنهاض للقوى ونبذ للضعف."أطلال خاوية" ،"لا أهل لا نسب"،"نزيلة قلب"،"خانها قمر"،"حشاشة روح"،كل هذه المفردات والاستعارات هي إيحاءات أنما توحي وتؤكد بأن الموضوع هو القصيد وأكثر دقة تخيل الشاعر بأنه سيفقد ملكته الأبداعية في القرض الملتزم طبعا ولكن هيهات فها هو يدعو نفسه الواهية لاستننزال الدمع في خوف وتردد وجعل احلامه تنتحب وتخفت صوتها لأنه أبي في النزائل شامخ عند المحن أوردته ما خضعت لذل الجوع أبدا وان نما فيها السغب!! ثم يبتعد عن نفسه ويخاطبها بزمن الماضي مسميا نفسه بالموجوع حيث يقول بما معناه لو كنت موجوعا سوف لن أهادن على كرامتي وأن غمرني البين والمصائب أي أن تخيلت ،"جفاف سطري"وشح ينابيع شعري! ثم يخبرنا بأنه يحصل ذلك بالصبر !!.نعم يتنقل الشاعر الى إنشاء النصيحة وتكتيك الصبر والتروي فهنا خير ملاذ في زمن الشدة فبالصبر تهدأ النفس وتسترجع الذكريات وما أجمل لحظات التذكر لانشاء القصيد فالسكينة رحم القصيد ومنبعه لأن فيها تتلألأ شذرات لحظات السعادة الماضية فيستظل فيها الحرف.نعم قد قدم لنا شاعرنا الأغر الحل ولكن ذروة الحل وقمة حلول الجمال في البيت الأخير حيث ينتقل الشاعر إلى أسلوب الأحتفاء الأنساني الراقي فيقول أن رجوع المجد للقصيد والشاعر يأتي بإياب الروح إلى قافية الأنغام حيث يطيب الطرب ويتبدد السغب..ليس غريبا ذكره للطرب فبرغم الجدية في السلك والموضوع أخذ من إحساسنا لحن القصيد مأخذ الثمالة والطرب: آبَتْ لكِ الروحُ ياأَنغامَ قافِيَةٍ فما يطيبُ لنا في الفرقةِ الطَرَبُ كنا مع تيار الوعي في "صدى الأمس" حيث كان أسلوبا سرديا يصف مجريات الأحداث المنسابة في فكر الشاعر بإنشاء مدهش عفوي وكأن السطور مرآة وصفية لمناجاة شاعر داخلية تعددت فيها شخصيته والأحاديث لكنها لا تزال مناجاة مقبوضة فيها كما هي دون شط أو خروج عن الإطار مرة أخرى ننظر لبيت القصيد من القصيد الساحر: .سر من العشق حتى الآن أحفظه طهرا بكل جلال العشق ينتقب يبقى أن نقول بأنه قد تفرقعت في الأفق فقاعات الإنكسار ودندنت السماء صدى روح النصر.نعم قد نفع توبيخ شاعرنا الفخم لليأس وشُحّ البوح فباحت قصيدته ملحمة وجود دائرية الرقصة تماما كسيف في يد راقص ماهر سيف مشتعل رأسه يصوبه أعلى فيطير متلولبا محروسا بعيون مراقبة ونبضات واثقة من رجوعه الحتمي إلى من حيث أتى كرجوع الصدى تماما حيث يدور السيف المقذوف يستجمع قوى روح وقريحة ويرجعها لقبضة فارس كلمة ما خانه زمن ولا عمر لا عشرون ولا خمسون ولا حتى أبد بأكمله.نعم سر العشق عندكم شاعرنا وما نسيتموه تجلى جلاله وبهاؤه بين أيدي أبياتكم لحنا مقفى بباء من باب الإباء وصورة من أعالي نغمات الأحلام. (أجازها النادي العربي للشعراء والأدباء) واتحاد شعراء العرب


نافلة مرزوق العامر

ليست هناك تعليقات