ووجيه البارودي ....رجاء احمد

 

سحر البيان

سحرالبيان


عَرف تاريخنا العربي - بقديمه وحديثه - عددًا كبيرًا من الأطبّاء ممّن لمعوا في سماء الأدب ؛ إذ تربط الأدب بالحياة علاقة وثيقة قوامها الإنسان روحًا وجسدًا . فإذا كان الطبّ يسعى إلى معالجة مايعتري جسدَ الإنسان وحياته من آفات وعِلل ، فإنّ الأدب ينبري لتصوير الواقع الذي يحياه المرء ويبثّ الروح في جانبٍ من مساحاته المُعتمة ، ويشير إلى مواطن الخلل والقصور فيه ..
تتيح مهنة الطبّ لصاحبها أن يرى الطبيعة الإنسانيّة وقد طرحت عنها كلّ مايغلّفها من أقنعة ، كما أنّها بمنزلة المنجم الثرّ الذي يمدّ صاحبه بصنوفٍ من الخبرات والمهارات ؛ يعمد إلى توظيفها في العمليّة الإبداعيّة الخاصّة به ، لينطلق الطبيب خارج حدود مهنته محلّقًا في عوالم الأدب والفنّ ، وقد وصف الشاعر التشيليّ "بابلو نيرودا " تلك العمليّة بقوله : ( عندما يُبدع الطبيب فنًّا ؛ فإنّه يكون الأجمل والأصدق والأدقّ ، لأنّه لايتخيّل المعاناة البشريّة ؛ بل يعيشها ويعالجها ) ..
وُهِبت الساحةالأدبية في سورية بعدد من الأطباء الشعراء الذين أثروا الأدب في بلاد الشام ، وأغنوا تاريخ الشعر فيه بأجمل القصائد التي خلّدت ذكراهم العاطرة ورسمت بصمة من نور إبداعاتهم هي محطّ فخر واعتزاز ..
من هؤلاء النجوم طبيب المساكين وشاعر حماة :

وجيه البارودي

يُعدّ وجيه البارودي من الشخصيّات السوريّة الفريدة التي تماهت فيها شخصيّة الطبيب بشخصيّة الشاعر العاشق والثائر على الجهل والفقر والتخلّف .. أثار البارودي بشعره جملةً من الإشكاليّات في بيئةٍ منغلقة محافظة ؛ لتعكس أشعاره شخصيّته المتمرّدة الثائرة وإنسانيّته المفرطة التي تجلّت في منحه مهنة الطبّ مفهومها العميق ومجالها السامي ، فلطالما مدّ البارودي يد العون للفقراء من خلال عشرات الحوادث المعروفة التي تُظهر نبله وإنسانيّته التي لاحدود لها ، إضافةً إلى فلسفةٍ حياتيّة من طرازٍ خاصّ ميّزته عن أقرانه ومجتمعه في حقبةٍ زمنيّة محفوفةٍ بالأعاصير وحركات التحرّر والأفكار الجديدة التي كان البارودي من أوائل من حمل لواءها في مدينته المحافظة ..
مولده ونشأته :
ولد وجيه بن عبد الحسيب البارودي في مدينة حماة السورية عام 1906 ونشأ في أسرة مترفة ، والطريف أنّ البارودي يذكر في لقاءٍ مصوّر له أنّ دافع عائلته لإرساله مع أبناء عمومته لإتمام الدراسة في بيروت كان التّباهي بقدرة العائلة على إرسال أبنائها إلى بيروت في فترة حرجة . إذ عصفت ببلاد الشام مجاعة إثر الحرب العالميّة الأولى ، كما عصفت بالبارودي فاجعة فقدانه المبكّر لوالدته وهو ما يزال في مرحلة مبكّرة من دراسته ؛ ليتزوّج والده من امرأة أخرى ويحرمه مع أخواته الأربع من الدعم الماديّ والمعنويّ ، وفي وقت لاحق حُرموا من الميراث ، ممّا أثار ألمًا عميقًا وثورة عنيفة في نفسه ، تجلّت في قوله :
خرجتُ أشقّ طريــــق الحيـــاة بسيف اليقيــن ودرعِ الثبــــات
وحيدًا أنــــاضل ، لا والدٌ معيـنٌ وأمـــــــي في الهـــــالكـــــــات
ولو كــان خصمي غريبًا بطشت ولكنّ خصمــي وثيــق الصّلات .
تلقّى تعليمه الابتدائي في مدرسة كان جلّ معلميها من أساتذة الدين واللغة العربية ، وهذا ما منحه اساسًا ثقافيّا تراثيّا متينًا . وفي سن الثالثة عشرة أرسله والده ليتابع دراسته الإعدادية والثانوية والجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت ، حيث برز تفوّقه في شتى أنواع العلم والمعرفة .. امتزج هذان المكوّنان بمواهبه الفطرية من قوة البنيّة ، وحبّ التفوّق ، وجمال الهيئة ، وحدّة الذكاء ، والتمرّد ، والنزوع إلى التّصادم وإثبات الذات ، وتحمّل المشقّات والموهبة الشعرية ، والمزاج الحاد ..
نظم الشعر وهو طالب في الجامعة ، وكان يتطارح الشعر مع زميله الشاعر إبراهيم طوقان ، والشاعر العراقي حافظ جميل ، وعمر فرّوخ اللبناني ، وأبو القاسم الشابي. وأسسوا معًا جمعيةً أطلقوا عليها " دار الندوة " .
ومن تلك الفترة انطلق صوته الشعري يصدح بأعذب القصائد ، يعكس في شعره شخصيته المتمرّدة وعشقه المتفاني ، كما تظهر في شعره إنسانيّته في ممارسة الطب وفلسفته الخاصة وقناعته الذاتيّة .
عاد إلى حماة بعد أن تخرّج طبيبّا ، ليمارس مهنته التي برزت فيها براعته ، كما برزت إنسانيّته وحبّه لمساعدة الفقراء ..
بقي ستين عامًا لم يخرج فيها من حماة إلا نادرًا ، يعمل ليلًا نهارًا متنقلًا في أحياء حماة لزيارة مرضاه ، كي لايكلّف زبونه الفقير أجر العربة ..
أتاحت له مهنته الاتصال بالبيئات الشعبيّة على اختلاف أنواعها ، مما كان له أكبر الأثر في اتجاهه الاجتماعي :
أتيت إلى الدنيا طبيبًا وشاعرًا
أداوي بطبي الجسم ، والروح بالشعر ..
في عام 1975 أقامت له مدينته حفلَ تكريم ألقيت فيه البحوث والقصائد وأصبح في عام 1978 أول رئيس لفرع اتحاد الكتاب في حماة ..
أصدر في عام 1971 مجموعته الشعرية ، "بيني وبين الغواني " ، "وكذا أنا " ، ثم أصدر ديوانه الكبير " سيد العشاق " وخلّف قصائد لم تنشر جمعها أحد أصدقائه تحت عنوان « حصاد التسعين»..
لمحات من مميزات شعره :
كان رحمه الله داعيةً للحبّ والإخاء والمُثل العليا ، ولم يتوانَ عن التمتّع بما خلق الله في الحياة للإنسان من متعٍ وجمال ولذّة بكلّ حرية وانطلاق على ألا تشكّل أيّ ضررٍ على حريّة الآخر :
عشْتُ طفلًا مدى الحياة بريئا وغريبًا في زمرةِ الأترابِ
ذاهبًا في الحياةِ مذهبَ صدقٍ زاهدًا في النّعوتِ والألقابِ
مؤمنًا بالإخاءِ والحبّ شرعًا ساخرًا من تفاضلِ الأنسابِ
يعدّ الشاعر والطبيب وجيه البارودي شاعرَ الحب والمرأة بامتياز .. يكتب القصيدة حين يأتيه شيطان الشعر ، أما إذا جفاه وقاطعه فلا يكتب ، لذلك جاء شعره جميلًا لا تكلّف فيه ولاصنعة ، يقول :‏
أطلقت شعري في ميادين الهوى‏
سحرًا وإغراءً ووحيًا منزلاً‏
سكر الغواني من كؤوس رحيقه‏
وصحون لما جئتهن مقبلاً‏
لم يحترف الشعر أبدًا ، بل ظل هاويًا طوال حياته لا ينشد من الحياة سوى قصيدة عشق جميلة ، وباقة ورد ، وسماعة طبيب يداوي بها مرضاه .‏
ويعتبر الغزل من أبرز ما تناوله في هذه الدواوين . فقد ظلّ طيلة حياته متلهّفًا للجمال ، قال في إحدى قصائده :
يعجب الناس كيف يهوى مسنّ في الثمانين قوّسَ الدهر ظهره
خَـبرَ الحــبّ يافعًـا ثمّ كـهــلًا
ثمَ شيخاً فازداد عزمًا وخبْره
وهو أصبى فتـوّةً في الثمانين
وأدهـى مـن المـراهـق شـرَه
كما صوّر في شعره كثيرًا من اللّقطات التي مرّت في حياته ، فجاءت صورًا واقعيّة ، فيها الكثير من الطلاوة والجمال والدّعابة ، والنقد للمجتمع ، والدعوة للثورة على التخلّف والفقر . قال في قصيدته الحمراء من ديوانه الأول :
مررتُ أمس على العافين أسألهم
ما تبتغون أجابوا : الخبز والماء
ومرَ بي مُتْرَف يشكو ، فقلت له :
ممَ اشتكيت؟أجـاب:العيش أعباء
سيّـارتي فقـدت في اللـون جدَتها
أريــد أخــرى لهــا شـكــل ولألاء
يا مْعدمون أفيقوا من جهالتكم
يا من حياتكم نَتنٌ وأوباء
لابدّ للأرض من يوم تثور به
والشمس من حنق في الأفق حمراء
اختم بالمقولة المشهورة :
حماة : هي العاصي ، والنواعير ووجيه البارودي

ووجيه البارودي

ليست هناك تعليقات