أحمد رامي الشاعر الذي ترنّمت بكلماته سيدة الغناء العربي ام كلثوم /بقلم رجاء احمد

 

سيدة الغناء العربي

 أحمد رامي الشاعر الذي ترنّمت بكلماته سيدة الغناء العربي ام كلثوم


العبقريّ الذي نسج من حروف العربية أجمل ما شدت به سيدة الغناء العربي ..إنه أحمد رامي : ولد بحي الناصرية بالسيدة زينب بالقاهرة والنغم ملء أذنيه ؛ فقد ولد في
مندرة لا تخلو من عازف أو مغنٍ من أصدقاء والده هوّاة الموسيقا ، وأخذت الأنغام مسراها إلى مهد الغلام الوليد ، فأخذ ينصت إلى الغناء في مهده تاركًا البكاء ، وبهذا منحته الطبيعة إحدى وسائل الشعر وهي الغناء والطرب .. وعندما تجاوز سنوات الطفولة الأولى ، اصطحبه والده معه في سفره إلى جزيرة طاشيوز ، إحدى جزر بحر إيجه ، حيث كان والده يعمل طبيبًا بالجيش الألباني هناك ، وقضى بها عامين كاملين ؛ ذهب وسنه السابعة ، وعاد وسنه التاسعة ، وتلك هي سنوات التّفتّح في أخيلة الطفولة ؛ وهكذا تفتّح خيال الشاعر على غابات اللوز والفاكهة والبحر والموج والشاطيء .. وعاد رامي من هذه الجنة ، ليلتحق بالمدرسة في القاهرة ، عاد وقد أتقن اللغتين التركية والرومية ، وهما لغتا أهل تلك الجزيرة ، ترك أحمد أبويه هناك وأقام عند بعض أهله في بيت يقع في حضن المقابر بحي الإمام الشافعي ، فاستوحشت نفسه وانطوت على هم وحزن عميقين ، وبهذا تدخلت الطبيعة مرة ثالثة في تكوين شاعريّة أحمد رامي من أجل منحه وسيلة ثالثة من وسائل الشعر وهي التّأمّل والسكون والحزن ، وكلّها أشياء تعمّق رؤية الشاعر ..
عاد رامي من الجنّة إلى جو من الصمت قريب من الكآبة ، فتعلّم الحزن العميق ..
دخل أحمد رامي كتّاب الشيخ رزق ، ثم مدرسة السيّدة عائشة ، ثم مدرسة المحمديّة عام 1903 ، وعندما عاد أبوه من طاشيوز ، عادت الأسرة إلى بيتها القديم بحي الناصريّة ، ولكن سرعان ما التحق والده بالجيش ، فسافر إلى السودان وترك أحمد في رعاية جده ، وهو شيخ في السبعين ، يسكن بحي الحنفي ، فعاودته الوحشة ، وكادت تعصف به لولا أن خفف حدّتها نافذة في غرفته كان يطلّ منها على تخوم مسجد الحنفي ، ليستمع طيلة الليل إلى مجامع المتصوفة يتلون أورادهم ، ويردّدون ابتهالاتهم في نغم جميل ، وتتدخل الطبيعة مرة رابعة لمنحه عنصرًا رابعًا من عناصر تكوين شاعريّته ؛ وهو النّغم الصوفي المتمثّل في التراتيل والأوراد الروحانيّة ، والتي تركت آثارها على شعر رامي فيما بعد ..
لعب كتاب ( مسامرة الحبيب في الغزل والنسيب ) دورًا مهمًّا في حياة رامي ؛ فقد احتوى هذا الكتاب على مختارات من شعر العشّاق المتغزلين ، وفي أثناء دراسته بمدرسة الخديويّة الثانويّة ، تعلّقت نفسه بحب الأدب ، فكتب وهو في هذه السن الصغيرة أول قصيدة في حياته ، كان مطلعها :
يا مصرُ أنتِ كنانةُ الرحمنِ في أرضه من سالفَ الأزمانِ .
ومن الطريف أن تكون أول قصيدة يكتبها رامي وطنيّة ، وكأنّه تعلّم من عشق وطنه العشق والغزل ..
التحق رامي بمدرسة المعلمين ، وتخرّج منها عام ١٩١٤م ، وكان همّه الأول أن يتّصل بالشعراء ، كشوقي ، وحافظ ، وعبد الحليم المصري ، وأحمد نسيم ، وغيرهم . فاتصل بهم وأحبّهم وأحبّوه .
مارس رامي ثلاثة أنواع من الأدب هي : الشعر الوجداني والعاطفي ، والشعر الوطني ، وأدب المسرح ؛ فقد ترجم رامي ما يربو عن خمس عشرة مسرحية لشكسبير وغيره من كتاب المسرح العالميين ، ومن أشهر ترجماته ؛ رائعة كوبيه ( في سبيل التاج ) و ( النسر الصغير لروستان ) ولشكسبير ترجم ( هملت ويوليوس قيصر ، والعاصفة )وغيرها . مُثّلت معظم هذه المسرحيّات على مسارح فاطمة رشدي ويوسف وهبي في زمن غرة المسرح .
ترك رامي الترجمة للمسرح العالميّ إلى نظم الشعر ، واشتهر شاعرًا للفصحى ، إلا أنّه سرعان ما ترك النظم فيه واتجه لكتابة الأغاني بالعاميّة ، وذلك بعد أن التقى بأم كلثوم وتعلّق بصوتها ..
كان لقاؤه بأم كلثوم نقطة تحول هامّة في مسار حياته الشعريّة ، لكنّه لم يترك نظم الشعر بالفصحى نهائيًّا ، وكان يعود للنظم بالفصحى بين آن وآخر ، وكأنّه أراد أن يؤكّد على استمرار وجوده شاعرًا فصيحًا بين شعراء الفصحى في ذلك الزمان ..
من بين من تأثّر بهم رامي من الشعراء تأثّرًا شديدًا ، حتى بان ذلك الأثر في بعض جوانب من شعره : أحمد شوقي ، وحافظ إبراهيم ، وخليل مطران ، وقد عدّهم رامي أساتذته في نظم الشعر ..
حاول رامي أن يطرق باب المسرح الشعريّ مثل أحمد شوقي ، فكتب مسرحيته الوحيدة ( غرام الشعراء ) إلا أنّها كانت قريبة الشبه بالشعر الغنائيّ الذاتيٍ ، وبعيدة إلى حدّ كبير عن سمات المسرح الشعريّ ، ويبدو أن رامي نفسه أدرك ذلك ، وعلم أنّه لم يجد نفسه في المسرح الشعريّ ، وأنّه شاعر غنائيّ ، فتراجع عن ذلك النوع من الفن ، وكفّ عنه نهائيًّا ، وترك ذلك المجال لغيره من الشعراء الذين يملكون مقدرة تأليف الشعر المسرحيّ ، أمثال : عزيز أباظة ..
وضع رامي فن المونولوج في مصر ؛ وهو نوع من النّظم يطوّر فيه النّاظم قالَبَه الموسيقيّ واللغويّ ، ويستخدم فيه الشاعر أكثر من بحر عروضي ، وتتعدّد قوافيه ، فلا يكون على قافية واحدة ، ويأتي على شكل مقاطع ، إلا أنّ كلّ مقطوعة تنتهي بقفل من وزن وقافية ، تختلف عن قفل المقطوعة التالية ، وهكذا حتى ينتهي المونولوج ، وبهذا يأتي المونولوج على شكل بناء دراميّ متصاعد ، يبدأ فيه وجدان الشاعر هادئًا ، ثم يعلو شيئًا فشيئًا ، حتّى يصل ذروته مع نهاية المونولوج ، مما يساعد الملحّن على إدخال التّنويع في النّغم ، واستخدام المقامات والضروب الإيقاعيّة المتعدّدة ، وهو شكل من الغناء الفرديّ تظهر فيه المناجاة ..
( كلمة مونولوج تعني في اللغة الإغريقية : الأداء الانفراديّ )
ويُكتب المونولوج بالفصحى والعاميّة . فالمونولوج : شكل جديد من النّظم والغناء معًا ، سمعه رامي أثناء وجوده بفرنسا ، فأعجب به ، وعندما عاد تعاون مع صديقه الملحّن الكبير محمد القصبجي ، في إدخاله على الغناء المصريّ . ومن أشهر مونولوجات رامي والقصبجي التي تغنّت بها أم كلثوم : النوم يداعب عيون حبيبي ، وإن كنت اسامح وأنسى الأسية ، ويا اللي جفاك المنام ، وغيرها من أغاني الزمن الجميل ..
من أهم الأعمال الشعريّة التي ترجمها رامي عن الأدب الفارسيّ رباعيّات الخيّام ، تلك التي قام بترجمتها أثناء وجوده بباريس ، بعد أن أوفدته دار الكتب إليها لدراسة فن المكتبات هناك ، فلما طُلب إليه اختيار لغة من اللغات الشرقية لدراستها ، اختار الفارسية ، حتّى يتقنها ، ويستطيع بعدها ترجمة الرباعيّات نقلًا عن لغتها الأصليّة ، لا عن ترجمتها الإنجليزيّة ، كما فعل من سبقوه في ترجمتها ..
حين ظهرت رباعيّات الخيّام في ثوبها الجديد من نسج رامي ، اختلفت الآراء حولها ، بين مُستحسن لها ومُستهجن ، ولكنْ مهما تباعدت الآراء فيها أو تلاقت ، فإنّ فيها نفحة من روح الخيّام ، وظلًا من فلسفته العميقة في الحياة ، فقد عايش رامي عمر الخيّام في رباعيّاته ، حتى اقتربت روح الشاعرين ، المصري والفارسي ، فأحسّ رامي بهذا الامتزاج ، وكأنه وجد ضالته فيه ..
استطاع رامي أن يرتقى بشعره ، سواء في الفصحى أو العاميّة ، إلى أرقى المعاني والصور والألفاظ ..
اخترت لكم من أجمل قصائده التي غنتها سيدة الغناء والتي أطربت العالم العربيّ من شرقه إلى غربه ولحّنها الموسيقار الكبير رياض السنباطي ، قصيدة :
❣ قصة حبي❣
ذكرياتٌ عبرتْ أفقَ خيالي
بارقًا يلمع فى جُنح الليالي
نبهتْ قلبيَ من غفوتة
وجلتْ لي سترَ أيامي الخوالي
كيف أنساها وقلبي لم يزل يسكنُ جنبي
انها قصة حبّي
ذكرياتٌ داعبتْ فكري وظني
لستُ أدري أيّها اقربُ منّي
هيَ فى سمعي على طول المدى
نغمٌ ينسابُ فى لحن أغَنِّ
بينَ شدْوٍ وحنين وبكاء وأنين
كيف أنساها وسمعي لم يزلْ يذكرُ دمعي
وأنا أبكي مع اللحن الحزين
كان فجرًا باسمًا
فى مُقلتينا يوم أشرقت من الغيب عليَّ
أنِسَتْ روحي إلى طلعته
واجتلتْ زهرَ الهوى غضّا نديَّا
فسقيناهُ وِدادا ورَعيْناهُ وفاءَ
ثمّ هِمْنا فيه شوقًا وقطفناهُ لقاءَ
كيف لا يَشْغَل فِكري طلعةٌ كالبدر يسْري
رِقّةٌ كالماء يجري فِتنةٌ بالحبّ تُغري .. تترك الخالي شَجِيّا
كيف أنسى ذكرياتي وهيَ في سمعي رنين
كيف أنسى ذكرياتي وهيَ أحلامُ حياتي
إنها صورةُ أيامي على مرآةِ ذاتي
عشتُ فيها بيقيني وهيَ قُربٌ ووِصال
ثمّ عاشتْ في ظنوني وهيَ وهْم وخيال
كيف أنساها وقلبي لم يزل يسكن جنبي . إنها قصة حبي ..
إضاءات على القصيدة :
كأنّ قصيدته هذه ما جاءت إلا لتلمس لنا مواطن الذّكرى .. ذكرى زمن جميل ، رسمت تفاصيلَه نظرةٌ وابتسامة ، جسّدها حلمُ يقظة يشبه خميلة الزهور .. ذكرى ملأت وجدان الشاعر بدمع وكأنه نزف داخلي ..
قصيدة توجز كثيرًا من وحشة الذّكريات ، ومن حلوها ومرارتها ، بحيث أخذت اسمًا آخر عند بعضهم بقصة حبّي بسبب جملة متكرّرة في القصيدة يختصر فيها الشاعر قصة الحبّ بالذّكرى ، حيث تجول حكايات الحبّ عبر أفق خياله بارقا يلمع في جنح الليالي ، نبّهت قلبي من غفوته وجلَتْ لي سترَ أيام الخوالي ..
أحلام وآمال طوّقت المشاعر بعقود الياسمين ، وخيالات رسمت عوالم مرصوفة بنبضة قلب ، وضحكة عين ، وانتظار يشبه المطر حيت لا يأتي .. ولكلّ ذكرى باعث يستنهضها ، ويرمي عليها وشاحًا من نور .. نور يأتي من بعيد ، من لقاء تعثّر في دروب الانتظار والحلم ، فلم يصل .. ونور تعتّقه الأشواق المخبّاة في تتابع الأيام في غفلة من أصحابها ..💓
أعزائي سمّار روضتنا الجميلة أعتذر عن الإطالة مع أنّي حاولت الاختصار ..
أُسعدتم مسا

رجاء احمد

ليست هناك تعليقات