الطبيب الشاعر وجيه البارودي ...سحر البيان
الحلقة الثانية عن الطبيب الشاعر وجيه البارودي وخصائص شعره
.إن الشّعرَ لَيكبر بشهادة الكبار ، وهاهو الشاعر الكبير بدر الدين الحامد يعترف بشاعرية الطبيب وجيه البارودي ، حيث قال : ( كنّا ننظم الشعر ، وكانت الأيام تمرّ بنا ، ونمرّ بها ، ووجيه يطرق من الشعر فنونه ، والبيان الأصيل يطاوعه ، والقريضة الفياضة تواتيه ، حتى أصبح الشاعر الذي لا يُجارى ، في مذهب من الشعر سار فيه وحده ، ولم يستطعْ أحد أن يُشركه فيه ) .
لاشكّ أن الطبيب الشاعر وجيه البارودي ليس بحاجة لشهادة من أحد ، ولكنْ حين تأتي من شاعر جليل ضليع ، وفارس من فرسان الشعر في ذلك العصر الذي أنجب بدوي الجبل وعمر أبو ريشة وشفيق جبري وعدنان مردم بك ، وغيرهم من فطاحل الشعر ، فلعمري إنها شهادة تستحق أن يفخر بها ويكابر باعتزاز ، وتحرِّض لديه حافز الرغبة في المتابعة والاستمرار بكلّ همّة وحبّ واندفاع ..
مما قاله الشاعر الكبير بدر الدين الحامد في شاعرنا وجيه البارودي أيضا :
( وجيه شاعر موهوب ، يتّقد ذكاء وفطنة ، وهو من الذين أوتوا النظرَ في الكَلِم وحسن الاختيار . أسلوبه عربي ناصع ، بعيد عن الأساليب الملتوية المضطربة التي خلقها هذا الزمان ، إنه لنفسه ولأخيلته وذكرياته ووصفه ورضاه ونقمته ) ..
من أكثر الفنون الشعرية التي أبدع فيها الطبيب وجيه البارودي : الغزل وله سماته المميّزة ..
يتمحوّر غزله في حوار ساحر ودعاب ماهر ، أمّا نغمته في إلقاء الشعر الذي ينظمه فنغمة حلوة ، يتجلّى فيها الوضوح ، وتشترك فيها الحواس كلّها ، فإذا الصوت من فمه ينقل إلى قلب السامع ، ويصبّه في سويدائه بلا كلفة ولا جهد ..
وقد اعتبره كذلك الأستاذ عبد الرحمن عياش شاعر الفنّ والعاطفة ، لأنه اكتسب من عظماء الشعر أحسن ما اتصفوا به ، فمن عمر بن أبي ربيعة الولوع في المغامرة مع زيادة في الصراحة ، إلى مجنون ليلى في الرقة والأسى ، إلى البحتري في الجرس والإشراق ، إلى ابن الرومي في الدقة والبعد ، إلى أحمد شوقي في الوضوح والإلمام والسهل الممتنع ؛ لهذا لبست قصائده ومقطوعاته ثوبَ زمانها مطرزًا بالحرير الناعم ذي الألوان الزاهية .
قيل عنه : لايوجد شاعر بتاريخ الشعر العربي عاش مراهقة الشيخوخة إلا وجيه البارودي ..
وقد خصَّ ديوانه ( بيني وبين الغواني ) بفصل من المحاورات والغزل ،
اختار فيه اسم "منور "
اسما مستعارًا لمعشوقته دفعًا للقيل والقال ، فلا يعني لأحد أن هذا الاسم يعني فتاة بعينها ، كما في قصيدته حنين :
تعالي يا منور عاتبيني
وجوري كيف شئت وعذبيني
تعالي نبك ِ عثرتنا تعالي
أذكِّرك ِ الهوى وتذكِّريني
هفا قلبي إليك ِفلستُ أقوى
على الشوق ِ المبرَّح والحنين ..
فتردّ عليه محبوبته :
أهواكَ لا أهوى سواكَ وآهِ لو تدري هوايا
حكمَ الزمانُ عليَّ أن أخفي اللواعجَ في حشايا
هذي رسائلكِ العذابُ تعيدُ لي ذكرى صبايا
أنا ما يئستُ ولا كبرتُ وللفتوة بي بقايا ..
وللطبيب الشاعر مراحل في الحب ، وهذا حبّ الأربعين ، وهو دائمًا السبَّاق فيه :
لي صبوة في الأربعينَ أوارها لا يُتّقى
أنا كنتُ أحسبني خمدتُ فرحتُ ألتمسُ التّقى
ومررتِ بي فهفا فؤادي للهوى وتحرَّقا
فتبعتُ قافلةَ الشباب ولذّ لي أن ألحقا
فجريتُ حتى جزتُ أولهم وكنتُ الأسبقا ..
وفي حبّ الخمسين يحاول أن يمحو ذنوب الأربعين ، ولكنْ هيهات هيهات ، لأن حبّه ابتكار حين يكونُ حبّ غيره تقليدًا ، وحياته لا تعرفُ السكون :
حياتي كلها حبٌّ عنيفٌ فلم أعهدْ مدى عمري سكونا
وفي الخمسينَ أمّلتُ اعتدالا ً عسى أمحو ذنوبَ الأربعينا
فيا صحبي ويا أخدانَ حبّي تعالوا فاشهدوا الذئب الأمينا
تعالوا فاشهدوا في الليل زيرًا وعندَ الصبح متزنًا رزينا
وحبُّ الناس تقليدٌ وحبّي ابتكارٌ مثل حُبِّي لن يكونا
وكذلك حب الستين الذي يزداد فيه شعره طراوة ، فتسكر الغواني من كؤوس رحيقه :
أطلقتُ شعري في ميادين الهوى سحرًا وإغراءً ووحيًا منزلا
سكرَ الغواني من كؤوسِ رحيقهِ وصَحَوْنَ لما جئتهنّ مقبلا
شعري يزيدُ فتوةً وطراوةً وأنا مع الستين يُقعدني البلى
كان حين يُلقي قصائدَه
يتماوج بصوته تارة بهدوء ، وتارة كالشلال الهادر بصخب وانفعال ، فيبعث في النفس الدهشة ، وفي القلب البهجة ، حتى ليسرح في عالم الخيال والصور التي ماهي إلا شريط من الأحلام المتلونة بألوان بهية زاهية :
رسالتي رسالةُ الأشواقِ والتحسُّرِ فيها من القديمِ والحديث والمبتكرِ
من آل نعمٍ نفحةٌ ، ومن مزايا عمر ومن جميلٍ نغمةٌ ترنَّحتْ في وَتري
ومن وجيهٍ لفحةٌ من الّلظى المستعرِ أحلام ُحبٍّ في شريطٍ من ألوفِ الصور .
وفي قصيدته ( الدونجوان) تدعوه محبوبته إلى أن يظلّ بلهوه ومغامراته وعشقه وغزله ، فهو عمر بن أبي ربيعة اليوم ، أي ابن أبي ربيعة العصر ، كما تدعوه أن يبتعد عن زهد أبي العلاء وفلسفته في الحياة :
قالتْ أحبّك جامحًا نَهِمًا فلا تزهدْ ولا تكسلْ وكن ذئب الفلا
دعْ عنكَ زهدَ أبي العلاء وعقلهِ واجهلْ فإنَّ حياتنا أن تجهلا
أَوجيهُ يابنَ أبي ربيعة عصرنا ستظلُّ ذيّاك الفتى المُتغزّلا .
ومن الصور الجديدة والفريدة المبتكرة التي اقتنصها الطبيب الشاعر من أعالي ذرا الخيال ، وأجاد فيها كلّ الإجادة ، فأثرتْ جماليّة الإبداع في قصيدته : ( انتفاضة ) قوله :
وحبٌّ بعدَ حبٍّ بعدَ حبٍّ سأعشقُ لن أكلَّ ولن أمَّلا
فربَّ دقيقةٍ لقحتْ بحبٍّ أتتني من ضمير الغيب حبلى
وللطبيب الشاعر قصة إعجاب بالمطربة" ميادة الحناوي" التي التقاها
في مهرجان قلعة حلب ، والتقط الصور التذكاريّة معها ، وأنشد فيها القصيدة تلو القصيدة :
ميادةٌ للقلبِ ينفذُ صوتها فالسامعونَ متيمونَ سُكارى
فترى شبابكَ مقبلًا متألّقًا وترى مشيبكَ مدبرًا يتوارى ..
لم يكن هاجس وجيه البارودي الغزل فحسب ، بل كان له فلسفته في الحياة من خلال تأملات ، ورؤيا تستشرفُ ، وعقلٌ يحللُ ، وحدسٌ يبحث عن اليقين ، وتساؤل يبحث عن جواب ، لمعرفة كُنه الوجود ، وسرّ الحياة ، يقول :
شخصية المحبوب تأسرني وما التجسيد إلا قالب وقشور
وجماله المنظور بعد جلاله لا شيء لولا حسنُه المستور
ثم يلجأ إلى الفلاسفة الأفذاذ لفكّ رموزها ، فهذا عمر الخيام المُبصر المُنكسر بحيرته لم يستطع كشف غموضها :
كمْ حاولَ الخيام حلَّ رموزها فتعقدتْ فاحتارَ وهو بصيرُ
وهذا أبو العلاء المعري الضرير المُتردّد في فَهمه للحياة ، لا يستطيع إدراك الحقيقة ، مع كلّ ما أوتي من حدّة في الذهن ، ونباهة ، وعبقرية ونبوغ :
وأبو العلاء بعقله وخيالهِ أسرى بركب العلم وهو ضرير
فرأى الحياة من الجماد تولدتْ وتوالدتْ وإلى الجماد تصيرُ
فارتدَّ بعد تشكّكٍ وضميرهُ لله أصفى ما يكونُ ضميرُ
ولحانةٍ في نيسبورَ أوى يعا قرها ليهدأ قلبهُ المدحورُ .
ثم يتساءل عن هذه الكائنات ، وهذه الطبيعة هل هي عفوية أم خلقها القضاء والقدر ؟! :
ما أرشقَ الأسماكَ في حركاتها ما أسعدَ الأطيارَ حينَ تطيرُ !
ما أبهجَ الأزهارَ في قيعانها هبَّتْ عليها الريحُ فهي عطورُ !
هلْ هذه الأحياءُ عفوًا أقبلتْ من ذاتها أمْ خلقها تقديرُ ؟!
ثم ينتقل إلى الأجرام السماوية ، والنّواة والذرّة ، وجوهر الكون في إنسانه ، حيث قال :
في الذّرة الصغرى شموسُ كهاربٍ دارتْ كواكبُ حولها وبدورُ
ولقد نفجّرها فتنشأ طاقةٌ عظمى فيسحر عقلنا التفجيرُ
الكونُ لولا أنّنا في أرضهِ نحيا ، ركامٌ ضائعٌ وصخورُ .
نعمْ فما الكون بلا الإنسان إلا حجارة جامدة لا روح فيه ولا حياة ولا جمال ، وكلّ ما فيه عدمٌ يتساوى فيه النور والظلمة :
عدمٌ إلى عدمٍ يؤول على المدى سَّيانَ فيه النورُ والديجورُ .
ثم يتفاءل الطبيب الشاعر بمستقبل الإنسان في الأرض حين يعمُّ السّلام ، وينمحي الفقر والشّقاء ، ويغدو لكلّ معضلة حلٌّ ، ولكلِّ سؤالٍ جواب من خلال الرؤيا التي يستشرف بها أبعاد المستقبل الإنسانيّ فوق هذه الأرض :
ولسوفَ ينتظمُ السّلامُ بها فلا حربٌ ولا هلعٌ ولا تهجيرُ
وسيمَّحي الفقرُ البغيضُ فليسَ في دنيا السعادة بائسٌ وفقيرُ
حدَّثتُ أهلَ الأرضِ عن تلك الرّؤى شعرًا فقالوا : شاعرٌ مخمورُ
وتضاحكوا هُزْءًا فرحتُ متمتمًا عيشُ الفهيمِ معَ البهيمِ مريرُ .
فلا يجد من ملاذ إلا العلماء ليحرّروه من كلّ هذا الركود عسى يكون الإنقاذ لهذا الواقع بالعلم والاكتشاف ، ولاسيما أن العمر في طور البناء قصير ، والحياة سريعة :
ولجأتُ للعلماء أنشدُ عونهمْ فالأمرُ إن طالَ الركودُ خطيرُ
يا أيُّها العلماءُ هيّا أسرعوا فالعمرُ في طور البناءِ قصير ُ
ولأن العمر قصير في طور البناء ، فقد أزفتْ ساعةُ الوداع الأخير ، وأزف الرحيل ، حيث رحل الطبيب الشاعر وجيه البارودي صباح الأحد -11 شباط( فبراير) 1996 م. تاركًا بصماته المشرّفة في كلّ أسرة في حماة ، فلا يزال أهالي مدينته يذكرون سيّد الأطباء ، وسيّد المصلحين: طبيبهم وشاعرهم وجيه البارودي حتّى إنّه لا يكاد أحد من أهالي حماة إلا وله قصة معه ، ويعدّونه علمًا ورمزًا لمدينتهم حتى اقترن اسمه باسم حماة ، فكان ناعورة الشعر التي توقفت عن الدوران ، بعد رحلة طويلة من العطاء الذي لا يحدّهُ حدّ ، والشهرة التي ذاع صيته فيها بكلّ الآفاق ، ولذا فاسمه ما يزال يتردّد ، ونوادره تُروى رغم سنوات الغياب ، ورغم بُعد المسافات الفاصلة بين الموت والحياة ..
ترك لنا رحمه الله إرثًا شعريًّا كبيرًا أثرى الوجدان العربيّ :
1_ ديوان( بيني وبين الغواني) المطبوع عام 1950 م ، والمعاد طباعته في كانون الثاني سنة 1971 م ويشمل القصائد من تاريخ 1925 م لنهاية 1950م .
2_ ديوان ( كذا أنا ) المطبوع أيضًا في كانون الثاني من سنة 1971 م ، ويشمل القصائد من تاريخ 1950م ولنهاية 1970 م .
3_ ديوان ( سيد العشاق ) الصادر عام 1994 م .
مجلة الضاد الصادرة بحلب ، العددان 1 ، 2 ، عام 1992 م ..
من أقواله المأثورة :
قليل من الطبّ أخطر من الجهل ..
أنا أقدم طبيب في حماة ، وأقدم سائق في حماة ، وأقدم شاعر في حماة ، وأتعس شاعر في حماة .
رحم الله وجيه البارودي أسطورة المحبة والعطاء والجمال
التعليقات على الموضوع