قراءة وغوص في قصيدة "صبرُ مزارع" للشّاعر المجدّد الفذّ البروفيسور جمال الأسدي بقلم نافلة علي مرزوق العامر
الشّاعر المستحوَذُ والمهووس بالوطن
The Land-Obsessed Poet قراءة وغوص
في قصيدة
"صبرُ مزارع"
للشّاعر المجدّد الفذّ البروفيسور جمال الأسدي
Prof-Jamal Ali Assadi
بقلم
نافلة علي مرزوق العامر
دوحة الشّاعر هي مرتع فكره وحسّه بل مخبأ أسراره ،هي قصيدة حبلى بجنين خلجاته وما ينوي إخباره ومخاض عبقر حرفه وإبهاره وهي المحكّ لقدراته الشّعريّة وامتحان لموهبته فإمّا كرامة وإمّا إهانة تمنعه من التّكرار.
لقد مللنا تأتآت الإجترار والشّهرة في الشّعر العمودي مفخرة إبداعنا بحجّة الوزن واحتراف “الإبحار” ،الإبداع رحم يلد "كائنا" قائما بذاته وإن اشترك مع جذره في شتّى الصّفات والأشكال ،نعم هو كائن مستقلّ في هويّته بصمته طموحاته وأفكاره،وهذا هو حال الشّعر فما سما منه وارتقى هو من امتاز باستقلاليّة وجماليّة خاصّة به تحمل هويّة مبدع يملك أدواته وقرضه حرف لا تنضب أنهاره .
وها نحن نقف هنا أمام قارض ساحرة أشعاره فهذه قصيدة تحتضن تداخلات رهيبة ومتنوّعة لحقول جغرافيّة شعريّة مجازيّةفلسفيّة وفكريّة فيها يسافر بنا شاعرنا الأريب كاشفا خفايا الحرف المعنى والموهبة الفذّة.قصيدتنا شعريّا هي حقل دلاليّ مدهش من معجم ثرّ وفكر باسق غنّي هي حقل مفاهيمي جوهره يدور حول مفهوم نعمة الزّرع والعطاء وإزاره ديباجة من حرف مجهور صارخ يخبر عن فعل وجهد استثنائيّ كيف لا والرّوي هو راء صادحة مشدّدة توحي بالعزم والتّكرار ورسالته حكمة تنادي بالصّبر والحِلم والتّمسك بالحُلم أي بالحياة.معلّم وأكاديمي في أعلى درجات التّدريس هو شاعرنا وحقله طلّاب يبنيها ويزرع فيها دروس الحياة والعلم لا عجب فقد كاد أن يكون رسولا مبلّغا والبقيّة على الطَلاب فإمّا شكورا وإمّا جحودا.الحقل عامَة موطنه التّربة نعم فيه عزق غرس حفّ وحصد أدواته معقل وفأس لكنّ حقل شاعرنا معنويّ تربته روح الشّاعر وأدواته مختلفة فها هو شاعرنا يقول:
عَــزَقــتُ بـكَـفِّـي قـمّــةَ الــتـلِّ حـــامِـدًا
وأنْــخــو ذِراعــي زانـــهُ الـعزمُ والـصَّبـرُ
وأغـرِسُ زَرعـي والأمــانــي بمَـعْــقِــلـي
تُـمـنِّـي بحَـصْـدٍ خَـافَ مِن قَـدرهِ الـفَـقـرُ
أنّه عزق "بكفّه"
قمّة التّل وزرع بمعقله أمانيه!!
هذا الشّعر سادتي مدهش فالملموس (كفّ)يزانه المجرّد(العزم)
والمحسوس (معقل)يزرع المجرّد(الأماني)!!غريب لكنّه الخيال يحاكي الواقع
والواقع يصبح خيال!حريّ بنا التّذكير باهتمام شاعرنا في خلق موسيقا داخليّة تستند على الحروف المجهورة كالعين الرّاء الميم النّون وغيرها
وهذا اختيار يضيف إلى محاسن الإبداع المتكامل الرّاقي فأحسن به من رأي أن نشدَد الحرف في السّمع عند الحديث عن عملية الَزّرع والفلاحة المضنية التي تمثّل عمليّة الإبداع التّكوين والخلق بشكل عام.
إذا نحن بصدد قصّة حدثت مع الشّاعر.
فكما نرى تحفل الأبيات بالأفعال وها هو المستوى الصّرفي يتداخل بمستوى دلاليّ (semantic)معنويّ ولا يقلّ عنه علوّا . مرّة أخرى يأتي انسجام مدهش ما بين الحرف والمعنى فقد جاءت كثرة الأفعال وكثافتها وشدّتها منسجمة معنويّا بمفهومي الزّراعة والإبداع،يا لجمال الكيمياء ما بين تعدّد الأفعال ومعنى العطاء والكدح!
يقول شاعرنا
بِـصَـدري أصدُّ الـــرّيـحَ إن بَـان نـابُـــهـــا
وإن طَــالَ نَــوءُ الغَـيثِ دَمعي هُوَ النَّهــرُ
ولا يَـقــرَبُ الأوغــــادُ أطــرافَ جـنّـتــي
وحـاشـا حِـمـاهـا أن يَـحيق بـهِ الــخَـتْـرُ
يتحفنا شاعرنا بمستوى معجميّ يبرز فيه مدى معرفته واطّلاعه على مفردات اللّغة ونفائس الكلم (ختر) وغيرها وغيرها وبلاغي راقي فاستعارة الرّيح وتشبيهها بحيوان مفترس لهي من الرّوعة بمكان والأجمل تلك الصّورة المائيّة حيث دمعه نهر متدفّق يروي حقله مغيثه من المحل.وهل سقي الحقل بالدّمع دون الماء إن شحّ سوى دليل قاطع على وجد حتّى الهوس!
عشق هو وابتلاء ذلك الرباط بين الزّارع والحقل وبين الشّاعر والحرف .هي علاقة فيها لذَة تنسي الألم.
في هذه التّعابير والدّلالات شديدة النّبرة عالية الصّوت نلمس مدى رغبة الشّاعر في إخبارنا جذبنا والتّأثير فينا فيما يخصّ قضيّة تفانيه وتضحيته في سبيل الحقل. وأكثر فالصّدر منبت القصيد
ومرتع القلب والعشق
والتّداخل جليّ فالقصيد والحقل يتقاطعان في مستوى الزّرع بل يصبحان كيانا واحدا.
والعشق للحقل يفديه النّبض الشّجاع
حيث يصدّ الأوغاد عن الحمى يعينه القلب
حتّئ هنا وبجمل خبريّة بليغة كان شاعرنا ذلك المزارع المجتهد الكادح لكنّه فيما سيأتي يتحوّل إلى عاشق مهووس بجنّته أو حقله فيقول:
أُجافي فـراشـي مُـهمِـلًا ما قَـضى العَـــنا
وأمـضـي الـلـيالي آلِـمًا في الـكُـلـى جَمـرُ
يستحوذ عليه حبّ العمل حتّى يهجر الفراش غير آبه بالعناء وتبعاته
بل:
أُحـفُّ بـرمشـي أذرُعَ الــغَـرسِ مُــفـعَـمًـا
بِــذِكـرِ، ألا بالـذِّكــر يَـحـلُــو لَـنـا الــذِّكـرُ
يتخذّ من رمشه فأسا يحفّ بها الشّجر وهو ذاكرا خاشعا بل مفعما بالذّكر.
فشاعرنا تراه مخبتا أبدا يستطيب الذّكر
ويستطيب العمل حتّى أنّ جبينه يتوهجّ سعادة حين ينجح الزّرع:
إذا أخـرج الـسـاقُ بَــواكــيــرَ شَـــطــئــهِ
رأيــتَ جَــبـيـنـي ضاءَ من وَهـجـهِ البدرُ
بل يغدو أسيرا ملتذّا بأسره لو كان الآسر كفّ السّاق
حين تلاطف خدّه.إنّها علاقة حميمة دافئة بينهما وكأنّ شاعرنا يخبرنا برومانسيّتها وهنا في ثوب الأنسنة وإحياء الجماد في الخيال Inanimation
تـلاطِــفُ خــدِّي كَــفُّــهـا طَـاب لَـمـسُـهــا
أَسـيـرٌ ولٰــكِـن لَــذَّ فــي كَــفِّـــهــا الأســرُ
نعم بحرارة هوس وحمية غير مسبوقة يعامل شاعرنا المزارع حقله
ولكن هيهات فها هو الحقل يجحد الفضل وينكر النّعمة
حيث:
ولمّا تَــرامَـى الــحَقْلُ والـجَـذر مُـتِّـنَـت
وأضحَـى رَشـيدًا عــنـدهُ الـقـولُ والأمـرُ
تَــعــامَــى كَــأنِّــي عــابِـرٌ مَــرَّ صُــدفَـــةً
بِـفَـيـحــاءَ لَــم يُـعــرَفْ لضَيفٍ بـهـا قَـدرُ
ينمو الحقل وتترامى أطرافه ويقسو قلبه فيرى صانعه غريبا!
كأنّه لم يره من قبل!
وفيه تصدق الآية الكريمة"يعرفون نعمت الله ثمّ ينكرونها"صدق الله العظيم.
فيلتزم شاعرنابالصّمت ويقول:
لزمت مَـقـامـي أرشِــفُ المُــرَّ خِـلـسَـةً
وَيَـبْـسُـمُ ثَـغْرِي وَالـحَـشَا وَقْـدُهُ الْــهَـجْرُ
يا لحكمة السَكوت والتزامها إذ بمطيّتها ينقل شاعرنا جهادهالمجهور في الحقل إلى جهادمهموس في الصّدر وكأنّ عينه رائية المدى قد استبدلت بعين حرف ترصد طعم المرار في زمن الخيبةفتتجرّعه خفية وسرّا كي لا يستهزء بها أحد وكي لا تشارك حزنها أحدا فما أوجع الألم إلّا صاحبه وما أفادت شكوى شاكيا ولا خفّفت من الوجع وطأته.
بل يلوذ شاعرنا بالحكمة دواء والحكمة للشّعر صوته وأمَا صوت شاعرنا:
وَصَـوتــي يَــعـلـو فَـوق سَــهـلـي مُــردِّدًا
مََسـاري شَـقـاءٌ غَـيـر أنّــي أنــا الــصَّـبــرُ
فهو عال يتردّد في الأفق ويعلن تفتّح مسار في الرّوح والشّعر هو مسار الصّبر ،مسار شقاء وعناء لكنّ شاعرنا راض به بوعي وعلم مسبق.
نعم وكما رأينا أعلاه وفي حقل دلاليّ خصب وحرف جهوريّ ملحّ ومستوى صرفيّ مدهش
عن نكران الجميل وحكمة الصّبر وفي قصيدة ذات وحدة عضويّة مترابطة الأجزاء بنيويّا ومعنويّا
وبتسلسل جماليّ منطقيّ أبحر بنا الشاعر الأغرّ يشق عباب الحرف الرّاقي والشّعر الأصيل.
قال شكسبير في الملك لير:"
How sharper than a serpent’s tooth
It is to have a thankless child”
وبترجمتي بتصرّف يقول :"إنّه لا شيء أحدُّمن سنّ الأفعى (وأشدّ ألما )من أن يكون لك إبنا جاحدا"
قصيدتنا هي قصّة مزارع يخبرنا عن فلاحته وصيانته لحقل جاحد ما ردّ أتعابه سوى بالتّعامي والجحود!
وأمّا القصّة الأصليّة فهي ذلك التّجديد وتلك البصمّة المميزة التي أغدقتها روح الشّاعر على هذا الموضوع المتكرّر أبدا في الشّعر والأدب منذ شكسبير وما قبله وما بعده.
متعة القراءة ها هنا تكمن في رصد اختلاف السّرد لفظا وبعدا
سنرى ذلك كلّه حين نقف على كلّ ملمح ملفت من هذه الملامح الإبداعيّة.بإسلوب شائق مشوّق إرتأى شاعرنا وضع تركيبة غريبة لرصف حروفه وسكب معانيه وهي مكوّنة من ثلاثة أجزاء وهم:
الأوّل تقدمة لفعاليّاته في الحقل
Presentation
والغريب والتّجديد جاء في أنّها مكوّنة من تسعة أبيات أي معظم القصيدة وهو شيء غير مألوف فغالبا ما تأتي المقدّمة مختصرة موجزة وما كان ذلك التَكتيك والتّكنيك عبثا فالشّاعر في هذا القسم من القصيدة يسلّط الضّوء على الفعل والفاعل وهما الزّراعة والمزارع فجوهر القضيّة ولبّ المعنى العمل في الحقل"
والثّاني وهو مكوّن من بيت هو يمثّل الذّروة أو المشكلة Climax
وهو عمليّة التّعامي عن تعب المزارع وحجد فضله
وقد جاء الطّرح مختزلا جدا
وبرأيي هذا يّعدّ نجاحا في السّرد كعامل مشوّق يبعد القارئ عن الملل ويصعّب على الرّتابة سبل الوصول إلى فكر المتلقّي
ويريحه من دوّامة الحشو والإطناب المشتّت للفكر.جدير بالتّنويه هنا براعة الصّقل القصيدي والفكر الحائم حوله فكون البحر طويلا لم يردع شاعرنا عن اختزال الطّرح واجتناب الحشو والتّكرار فالقضيّة ذات شأن ولا وقت ولا مكان للثّرثرة وإطالة الحديث وهير فعل فأفضل الطّرق لبلوغ الهدف هو المستقيم أقصرها.
والقسم الأخير وهو من بيتين
هو الحلّ:
Solution
وبه التّجديد كما أراه وهو كثير وقد جاء في مستويين
"لفظي" حيث خفت الصّوت وجاء شرب المرّ "خلسة"
و"معنويّ "فقد كان الرّد على الجحود هو حكمة ارتشاف المرّ ولزوم الإبتسام وكتم الوجع الذي وقده هو الهجر.
يحضرني ها هنا قول تولستوي "إنّ أعظم مجاهدين هما الصّبر والوقت".
هذه الخاتمة الحكيمة جاءت بتلقائيّة وانسيابية مدهشتين،خاتمةأظهرت انزياحا لفظيّا فالشّاعر لجأ إلى السّكوت بعد أن احترف الأفعال وانزياحا معنويّا على مستويين الأوّل محلّي في كونها فاجأت القارئ وخيّبت توقّعاته فهو كان ينتظر من الشّاعر ثورة وغليانا تجاه الحقل والثّاني فكريّ متعدّي في طرحها أفقا فكريًا ثوريّا
يقودنا إلى التزام الهدوء والصّبر عندالشدائد مع احتراف العمل والسّعي (مظهريّا) والفوران والغليان دون استسلام (جوهريّا)
فلكلّ فعل صوت لا بدّ
ويعلو في المدى شاء من شاء وأبى من أبى،صدق المثل إذ قال"من جدّ وجد ومن زرع حصد".ما علينا سوى التّضحية والعطاء كلّ من موقعه ومهنته زوجا كان أم معلّما عاملا حاكما أو غير فإن شكروا يا سعدنا وإن جحدوا فالله هو الغنيّ الحميد.
ويا له من فذّ شاعرنا حين ختم قصيدا مدجّجا بالأفعال في جملة اسمية مدوّية "أنا الصّبر"!!جملة صهرت الفاعل بفعله ،وعجنت الوطن بعاشقه،ورقّت الفاعل من كائن إلى مفهوم فجاء المزارع صبرا وكان
التعليقات على الموضوع