قراءة نقدية بقلم نافلة مرزوق العامر لقصيدة "هذيّة المحال״ للاستاذعمادأحمد

 

قراءة نقدية بقلم نافلة مرزوق العامر لقصيدة هذيّة المحال״ للاستاذعمادأحمد


"هذيّة المحال״:

مع مونولوج الوشم
في سيولة الوهم
وضياع الحلم
في ضوعة القلم
إحتواء جزئيّ لأبعاد
"هذيّة المحال"..
كما يروق لي أن أعنون معلّقة قيصر الحروف الفذّ الشّاعر الأميز
""عماد أحمد ""
ألا وهي:
"نقشٌ على الماء "
قراءتها المركزيّة في بعدها الواقعيّ التّشاؤميّ
‏Realistic Pessimism
"نقشٌ على الماء .."
نقشٌ على الماء هذا الوَشْمُ ما صمَدَا
ما أبْقَتْ الريحُ خلفَ الباب منكَ صَدَى
لا قاعَ في القاع أقْصى ما ركَسْتَ بهِ
لا وقتَ للوقت في ترميمِ ما انْسَرَدا
من كوَّةِ الحائطِ المرصوصِ من قلَقٍ
ومن فضاءات ضاقَتْ فسْحةً ومَدَى
أطَلَّ نسْغُ حياةٍ لا حياةَ بهِ
ما ساوَرَ الجفنَ حتّى شافَهَ الرَمَدا
من بينِ قوسَيْن ما تنفكُّ تحصرُهُ
من قهْرِ قيْدَين ما انحلّا وما انعقَدا
ما قيمةُ الناتجِ المجهول لو شبَحَتْ
أُرجوحةُ الخوفِ بسْطًا والمقامُ رَدَى
أَفِقْ من الوهمِ لا تخدَعْكَ بزَّتُهُ
خلفَ القناعِ اهْتِراءٌ لو إليك بَدَا
بعضٌ من الضوء لا يعني اختزالَ رُؤَى
حتّى مع الضوء يُفضي سيرُنا قدَدَا
هذا الضجيجُ بصدري نَغْزُ أورِدَةٍ
فيها من المَوْر ما يستهلكُ الجَسَدا
فيها من التيْه ما بالتيْه من فَرَقٍ
ومن مساراتِ خوْضٍ أورثَتْ كمَدَا
رِفْقًا بخفّاقِكَ المشبوبِ من وَلَهٍ
بهِ من النبضِ ما بالماءِ لو رَكَدَا
مازالَ يجْفُلُ لو ناغَتْهُ خيبَتُهُ
مازالَ يركسُ لو شوقٌ بهِ صعَدَا
هذا المُرَتَّقُ ملحُ الدمع ضمَّدَهُ
وروَّفَتْهُ مواويلٌ تحوكُ رِدَا
ما روَّضَتْهُ مآلاتٌ تنُزُّ أسىً
ولا سلاهُ دخانٌ فتَّتَ الكَبِدَا
يغفو وفكرتُهُ الحمقاء توقظُهُ
ويستفيقُ ولكنْ نبضهُ رقَدَا
هذا المُلَغَّمُ من عشرين يذرعُها
ظامٍ ويصدرُ لو وشْلًا بها ورَدَا
هذا الذي لو حباهُ الليلُ حالكةً
لَأسْرَجَ الواهنَ الموجوعَ فاتَّقَدَا
هذا الذي أفحَمَ الترياقَ نازفُهُ
وناكفَ العاصفاتِ الهُوجَ فاخْتَضَدَا
بهِ من الشَجَنِ المَكبوتِ خارطةٌ
حدودُها بابُهُ المخلوعُ لو وُصِدَا
حالُ اللِحاءِ وعاثَتْ فيه مقتَلَةٌ
ماذا سَيَدرَءُ جِلْدٌ فارَقَ الجَلَدَا
مامن سبيلٍ وهذا التِيْهُ ليسَ بهِ
صدرٌ لرَأْسِكَ إمّا مالَ فاسْتَنَدَا
ما غيرُ خدِّكَ لو سالَتْ سيَحفُظُها
تلكَ الدموعُ إذا أُوّارُها احتَشَدَا
أوغَلْتَ في خوضِكَ المجهولِ ياوَجِلًا
رغمَ ارتِعادِ يقينٌ فيه ماارتَعَدَا
تلك النهاياتُ ما وافَتْكَ جيِّدَها
قبضًا من الريح هذا الكفُّ لو حصَدَا
فاقْفلْ لخطِّ شروعٍ ما شرَعْتَ بهِ
إلّا وصبرُ بناتِ الدهرِ قد نفَدَا
أنا وسينُ سؤالي كُنْهُ غائِرَةٍ
وخطوةُ الألفِ قد تستَنْزِفُ الأَمَدَا
حاولتَها فتماهى الخوفُ في خَلَدِي
خوفٌ يشلُّ ضميراً ما يشلُّ يَدَا
الآن بعدَ انكسارِ الضوءِ مُنكَفِئٌ
روحاً وقلباً وتهوى السيرَ مُنْفَرِدَا
الآن يخذلُ كالمعتادِ غايتَهُ
عزمٌ تراخى ومن يأْسٍ بهِ قعَدَا
لا لن أُرَبِّتَ كتْفًا خانَ ساعدَهُ
ذنبُ العيونِ إذا دمعٌ بها جمَدَا
ذنبُ الشموعِ ومن جهلٍ بها احتَضَنَتْ
ذاكَ الفتيلَ فذابَتْ كلَّما اتَّقَدَا
خلفَ السرابِ تلاشى نسْغُها ظمَأً
وأقفَلَتْ من سُدىً كي تنتهي لِسُدَى
لهفي عليه توارى خلفَ إصبعِهِ
حُلمٌ وقبلَ بلوغِ الحِلمِ قد وُئِدَا
................................
تململ الفكر وأسدل الجفون ثمّ طأطأ هامته ونفث زفرة حارة من ثقل دهشة وحيرة انتابتاه ساعة ولج معلقة القيصر محلّلا مستنبطا معانيها الغارقة في خوابي اللّحن المثمل!
دهشة وحيرة نعم !فكيف يحتوي غلال بيادر لوحته الشّعرية وكيف يعبّر عمّا بسط من أوجاع شاعر جاءت من تقرّحات روح جرحها واقع موجع نعم إنّها الواقعيًة الشّعريّة (PoeticRealism)تنهش في نخاع القصيد في هيكله وفي مبناه ومعناه! قصيد في الإخبار عن أخبار ما سرّت عدوّ ولا حبيب سرت آثارها في شريان الإبداع والحسّ فصقلها الشّاعر كلمات ليست كالكلمات وطرح أزمته شرّ الأزمات.فما أصعبها من حالة من مجتمع يترنّح كزقّ على سطح الماء لا حول له في تحديد اتجاهاته ولا جدوى في جهود الرسوّ مهما كثرت اللّهمّ سوى أمنية تتحقّق تحقِّق نقش وشم ٍ على ماء أو شبع وعاء مثقوب من رواء!?
قال سوفوكليس Sophocles في تراجيديّته الخالدة
"أوديب”
‏“How terrible to see the truth when the truth is only pain to him who sees"
بترجمتي "كم هي مريعة رؤية الحقيقة حين تكون هذه الحقيقة ألم فحسب عند من يرى".
طرح شاعرنا مأساته في معلّقة ترصّعت برصف نغميّ لفظي ّصواني وبلاغة مخمليّة وفصاحة متنبّية لسانها أبلح صريح وأسلوبهامباشر واضح.في مونولوج تقريعي من صوت مأزوم دراماتيكي صارخ في الأجواف يخاطب الشّاعر نفسه المرهفة المكلومة حتّى الثّمالة من هول ما يحيطه من واقع قاسي مظلم ,كيف لا والموضوع هو وأد حلم وضياعه وهل أشأم من ذلك !فالحلم هو جنين النّهار ومجداف الإبحار .يطرح شاعرنا نظرته بأنّ احتمالات التّحسّن والتّقدّم في مجتمعه تقارب الصّفر رياضّيا وتشابه نقشا على ماءمنطقيّا وتعيش كينونة الحلم واقعيا وإبداعيّا.
سنرى عند الوقوف على أقسام المعلّقة كيف أوغل في الغلوً والمغالاة شاعرنا الأريب ونعم ما فعل فمعهود في الكتابة الإبداعيّة النّاقدة والمتشائمة اتّباع تكنيك المبالغة أو ما يسمّى ب hyperbole وهو المبالغة في الوصف التّشبيهات والإستعارات وذلك لأهمية وخطورة الموضوع وطلبا لإثارة الدهشة والمشاعر في نفس القارئ هو اسلوب قد اعتمد ليشد ذهن القارئ وينبهه ويضغط عليه ليأخذ الأمر مأخذا أكثر جدّيّة بل ليتضامن مع رؤية الشاعر ورنّة النّبرة الحادّة لعله يحوّل فكره إلى عمل ملموس في أرض الواقع .من هنا نرجع ونقول أنّ أسلوب المغالاة هو أنسب ما يليق في هكذا مواضيع فلو جئنا لتحليل كلمة واقعيّة بالانجليزي realism لوجدنا جذرها الصفة real نحن بصدد مأساة من نوع آخر نوع فيه شكوى من استحالة تحقيق وكل حقيقة لا تحتمل اللّولبة بل تكون صريحة واضحة مباشرة ومختصرة.
فمرّة أخرى سنرى مأساة ضياع الحلم قد جاءت بأسلوب تهكّم قدح وندب وتنبيه وتوبيخ فالموضوع في المحال وعدم الجدوى يلفّه جوّ دراماتيكي عتبي تشاؤميّ كئيب .
برإيي فإنً القصيدة
تنقسم خطابيّا إلى خمسة أقسام وهي وحدة عضويّة
معنويّة متلاحمة بتسلسل وتلاصق معنوي منطقي أو مايسمّىcohesiveness وبوضوح فصيح coherence ممّا يسهّل على القارئ عمليّة التركيز وملاحقة أفكار الشّاعر وبالتّالي فهم واستيعاب معاني القصيد دون ضياع أو تشتت ذهن فبلاغة الكتابة من براعة وعمق الشّاعر ولا بدّ وتثمر بلاغة قراءة وفهم!
ألأقسام هي كالتالي:
الأوّل مغالاة في الرّصد والنّظرة حتّى البيت السادس
ألثّاني مغالاة في الطّلب التًبرير والإقناع حتّى البيت الثّاني عشر
إلثّالث"هذيّة المحال"أو ذروةالمغالاة في التّشاؤم حتّى البيت العشرين
ألرّابع ذروة الذّروة في اليأس والسّوداويّة حتّى البيت السادس والعشرين
ألخامس الإنكسار والنّهاية التّشاؤميّة أو خلاصة القصيد
العنوان:
"نقشٌ على الماء"
في الإيجاز إعجاز قد تغرف جملة وحيدة محيط معان لا عرفه كتاب بأكمله ولا حاز !لهذا تعرف القصيدة من عنوانها وقد شاء شاعرنا طرحه في صورة "مائيّة "وسيولة liquidity في غلوّ يصل لاحقا الإثيريّة وهو تصوير قمّة في التًجريديّة وأكبر بهكذا تصوير فيه تلفظ المخيّلة أفكارا في لوحة شعريّة تكاد تنطق وتتكلًّم! فالمائية تعبّر عن صعوبة الأحتواء كما يصعب احتواء الماء الجاري ومن أخرى على الخير والتّدفق كتدفّق رسومات الشّاعر ويحضرني هنا العظيم الرّسام Da Vinci دا فينشي حين قال "إنّ الرّسم هو شعر مرئيّ أكثر منه محسوس والشّعر هو رسم محسوس أكثر منه مرئيّ"ونحن في العنوان نرى رسما في مخيّلتنا ونشعر به في إحساسنا ونكاد نعتقد أنّه مرئيّا .فقد برع الشًاعر في وصف حلمه "
"بالمتواري "وكلّ مجهود في سبيل تحقيقه لا جدوى منه وهو محتوم فشله تماما كمن يريد رسم وشم على ماء !فقد قال في البيت الأوّل :
نقشٌ على الماء هذا الوَشْمُ ما صمَدَا
ما أبْقَتْ الريحُ خلفَ الباب منكَ صَدَى
إذا هي تراكمات صغوطات تقولبت في رسم على رسم كدخان سيتفرّق في السّماء تماما كجهدٍ أتت ثمرته موؤودة في عتمة الرّجاء كيف لا والشّاعر يعتقد أنّ وشمه أو إبداعه أو أمنيته أو حتّى "تسميته للأمور "ستتحقّق في الواقع كما يصمد النّقش على سطح الماء لو صمد!تحدّث في السَيولة مضيّعة العمل ثمّ انتقل إلى الرّيح أو الأثيريّة ناسفة الأصوات وقالعة الأبواب
صورة عملاقة في المجرّد بحجم البليّة المحسوسة حقّا برع شاعرنا في وصف الحالة الواقعة بواقعيّة ترجمت شدّة خطورتها وتشاؤميّة بالغة ولكم أصاب شاعرنا باختياره هذا التّصوير المحبط المنذر بسؤ العاقبة فبعض المغالاة تأتي لاجتناب الشَر والفشل وإيقاظ العقول الجامدة والهمم الكسلى
فكأنّه يرد دروب اليأس ليخلق الأمل وهو رأيي وتقويمي الشخصي للأمور…كما قال بعضهم الشعر ليس تعبير عن الواقع بل هروب منه أحيانا.
فها هو يضاعف جرعة المبالغة في وصف مرارة الواقع ويستعمل أسلوب تكرار الكلمة وليست أيّة كلمة للتّوكيد على موقفه ويقينه فكلمة "قاع " هي عكس "علو" وكلمة "وقت" كبيرة كبيرة تسع الحياة بأكملها ويا لهول الكلمتين فهو يريد أن يقول بأنّ الأمور لن تصل قاعا أكثر انخفاضا وأن الوقت ذاته يعجز عن ترميم ما فسد!
لا قاعَ في القاع أقْصى ما ركَسْتَ بهِ
لا وقتَ للوقت في ترميمِ ما انْسَرَدا
حقّا هو إدراك لهول المصاب ويحضرني هنا قول هوميروس في الياذته الشّهيرة"لقد صرخ الإله مارس بقوة صرخة تسعة أو عشرة آلاف رجل" وهذا ليس كذب مقصود والمقصود ها هنا هو تعظيم التّشاؤم بوصف مبالغ فيه لشدّ الآذان والأذهان اعتبارا لحدّة البلاء فالتّشبيهات والإستعارات والأوصاف الخياليّة تتجرّد من حجمها لحظة إدراك بواعثها ومراماتها.
ثمّ يلج الموضوع مباشرة طارحا نظرته التّشاؤميّة تاركا الباب مغلقا لأي اعتراض أو نقاش.شاعرنا في الواقعيّة العارية من كلّ مجاملة هذا هو الواقعي التّشاؤمي الذي أدرك عمق الجرح وانتابه الحزن فجاء موقفه السّلبي معدما كل أمل في التّغيير والتّأثير فيقول شاعرنا السّامق في صورة هندسيّة في تعرّجات النّفي ومتاهاتها:
من كوَّةِ الحائطِ المرصوصِ من قلَقٍ
ومن فضاءات ضاقَتْ فسْحةً ومَدَى
أطَلَّ نسْغُ حياةٍ لا حياةَ بهِ
ما ساوَرَ الجفنَ حتّى شافَهَ الرَمَدا
إذا فهو نسغ "حياة العدم والعبثيّة"ما يتحدّث عنه شاعرنا.لقد شخّص شاعرنا الفيلسوف المرض ووقف على أسبابه ونتائجه
في صورة محسوسة يشقّ على ريشة رسمها فكيف ترسم الألوان وتجسّد "جدار قلق" وكيف ينطق قلم "بإطلالة نسغ" وكيف تخفي لوحة حالة من انعدام اللّون والطّعم لا بل وكيف ببلاغة جارفة تقنع فكر وحسّ المتلقّي بجميع تفاصيل هذا الوضع بدفقة إبداعيّة خالدة يلفظها اللّسان وتراها عيون القلب ويحتضنها بعد الوعي والإستلهام من أنفاس التوعيّة وإن وخزت وكوت واستفزّت!
هو بمعنى آخر براعة الفصاحة في بلاغة الوصف والتّوصيل والتّأثير الأدبي ما أنجزه ها هنا قيصر الحروف الفصيح.
هي كوَة الجهل والتّجهيل من نفوس قلقة لا تقدر على صناعة حياة مستحقّة ما يشكوه شاعرنا .وصف ترصّع بجماليّة التّصوير في جّو يثير الشّعور بالإختناق كيف لا وإطلالة الحياة فسحتها فضاء ضيّق يعزّ على خيطان النّورفيه اختراقا!!
لإنّه:
من بينِ قوسَيْن ما تنفكُّ تحصرُهُ
من قهْرِ قيْدَين ما انحلّا وما انعقَدا
تصوير رياضي منعش يرادف معادلة واقعيّة في حالات التّقييد والخنق.يشرح شاعرنا واقع الحال في نسغ حياة يقيّده موت لكل مظاهر الحياة الطبيعية نسغ بزغ من مستنقعات الجهل نعم واقعي مدرك عمق الجرح وعمق الضعف والبؤس .!
معادلة نتيجتها سلبيّة في إشارة السّلب فماذا ينتج عن وعي يكبّله الخوف ويحكمه الموت كأنّني بالشاعر يقول:خوف من مجهول وقيد يصفّد الحرية نتيجته سلب للحياة أو الموت
لإنّه:
ما قيمةُ الناتجِ المجهول لو شبَحَتْ
أُرجوحةُ الخوفِ بسْطًا والمقامُ رَدَى
يأخذنا في "جدلية معنى الحياة " متشائما وكأنّه يقول موجب زائد موجب ينتجان سالبا كيف لا وهو ينتقل ظاهريا لإعطاء بوادر حلّ ٍ هو حلٌّ عظيم يتجسّد بالإيقاظ والإستنهاض فهو ينتقل لأسلوب الطّلب الإيجابي ولكن حذار من التّوهم فالإخبار سلبي يتلاءم وروح القصيد التّشاؤميّة فنحن لا زلنا في أفق غياب الحول في القدرة على اليقظة حتى قبل القدرة على العمل .هو التّشاؤم فى أوضح صوره وأبلغها.إذا بادر حلّ لكسر قيد العتمة ففعل "أفق"وليس كلمته والفرق شاسع بين فعل ومفهوم ينبأنا بأنّ الشّاعر على شفا انبعاث وانتعاش لأنّه يطلب الإستيقاظ ولكن هيهات فالإنزياح الدّلالي بالمرصاد والإنزياح ها هنا أيضا تركيبي نحويّا وبديعيا أتى في انضباط نبض التّهكم السّخرية والتّوبيخ لأنّ الوهم هو الخديعة التي جاءت خلف قناع يطوي عكس ما يريه!!نعم إنّ بيان القيصر لسحر!
لا بدّ هنا من قول كلمة حقّ لصالح شاعرنا فقد أبدى في تعبيره عن الواقع هروبا من الواقع وإيقاظا للنّفوس بأسلوب حادّ في النّقر على الرّوح المخدوعة بلفظ وتعبير شعريّ محسوس لطمته في النّفس أشّد وأوجع من ضربة مهنّد كيف لا والمهنّد هو حرفه
!
شاعر ينطق وجع مجتمعه بتجديد معنويّ لفظيّ منزاح عن كلّ ما هو متوقّع!ليتنا نذكّر أكاديميّاتنا بزهور إبداعيّة تنمو وتعبق في أرض الأدب لربّما فاقت قدرة كلّ من تحتضنهم وتزركش كتاباتهم بحقنات توهيميّة تجعلهم أبطال ثقافة وحضارة وفي بطونهم ينمو العشّب الفكري الضّار!
شاعرنا أغدق علينا بعده الرّابع في تخطّي حدود الزّمان بوصف متفرّد لقيود ثقافة المكان!
إذا "أفق من الوهم"
والوهم قناع الخداع اللّئيم!
أَفِقْ من الوهمِ لا تخدَعْكَ بزَّتُهُ
خلفَ القناعِ اهْتِراءٌ لو إليك بَدَا
وكيف يقنعنا:
بعضٌ من الضوء لا يعني اختزالَ رُؤَى
حتّى مع الضوء يُفضي سيرُنا قدَدَا
يختصر قدرة الضّؤ القليل على فهم وتوضيح الواقع وتنوير وإيضاح السّبل للخطوات السّائرة!
هذا الضجيجُ بصدري نَغْزُ أورِدَةٍ
فيها من المَوْر ما يستهلكُ الجَسَدا
حتّى نبضه ضجيج وليس نغمات إيقاع حياة
يا لسوداويته!كم يعشق أن يكره الحياة!
ففي أوردة الحياة "تيه":
فيها من التيْه ما بالتيْه من فَرَقٍ
ومن مساراتِ خوْضٍ أورثَتْ كمَدَا
أنظر المغالاة والتّكرار والتّوكيد !
فالتّيه هنا تضليل وتعالي وضياع وكلّ ما تحمل من معاني الهلاك الرّوحي.
مفردة جاءت موزونة على عيار الدّقة لتناسب كلّ معاني التّواري والتّشاؤم كحبّة ذهب زينت على كفّة الدّقة المتناهية!
أنظر التّصوير المحسوس يسقط على الرّوح لمسة مؤنّبة ومؤلمة
وهنا تتجلّى قدرة التّعبير الخارقة وبراعة الرّصف الإستثنائية ولا أغالي لو قلت هذا فالأصل مطروح والفصل قاطع والكلمات بيّنة بائنة لا تقبل الإنكار!
ثم ينتقل الى ما يشبه التّرويح فالأسلوب يقطر بالإنزياحات وكسر التّوقّعات لإنّ "الرّفق "أدناه ما هو ضرب إلّا على النّفس وضرب من ضروب التّهكم!
رِفْقًا بخفّاقِكَ المشبوبِ من وَلَهٍ
بهِ من النبضِ ما بالماءِ لو رَكَدَا
فالنّبض الهادئ مفعم بالعكر والكدر وإن ركد مراوغة لا صفاء وشفافيّة!
لأنّه:
مازالَ يجْفُلُ لو ناغَتْهُ خيبَتُهُ
مازالَ يركسُ لو شوقٌ بهِ صعَدَا
كلّما أفاق من خديعته سييدرك عمق وقعته وركسته وخيبته
لاحظ تعبير ناغته خيبته وكأنه اجتماع أضداد oxymoron للسّخرية وتوكيد المحنة! فالمناغاة عذبة تأتي في مشهد عذب والخيبة مرّة علقم!
يريد أن يقول لا تتوقّع خيرا كيف لا وهو المتشائم!
ثمّ ينتقل بنا أستاذنا إلى ما أسمّيه فرط المغالاة وذروتها excessive pessimism وذلك في هذيّة مزلزلة ترسم واقعه بسواد مفرط يكاد يقطع نياط الوتين رهبة وأوتار الفكر رؤية فهو يكاد يحعلنا نتمنى لولم نولد ولا خلقنا!
فهنا نشرف على حلكة القصيد أكثر توغّلا وانصداما ممّا يذكرّني بقول الكاتب الكبير كونراد J.Conrad في روايته الخالدة The herat of darkness أي قلب العتمة وبترجمتي بؤرة العتمة فقال يصف صدمته وهو المثالي المتفاءل ممّا رآه من ظلم للأفارقة على يد المستعمر :لقد توغّلنا أعمق وأعمق في قلب العتمة" والعتمة استعارة للظّلم الوحشيّة الإستغلال والتّعذيب وكافة جوانب المعاملة الغربيّة للشعوب المستعمرة.لن أبالغ لو قلت أنّه نفس الفستان ألبسه شاعرنا لواقع الحال في بلاده لربّما اختلف في اللّون والنّقش وهويّة الحاكم المتسلّط!
ونعود إلى قول ابن الرّومي:
كم مقلة بعده عبرى مؤرقة
كأنما كحلت سما على رمد
في هذا التّصوير للهيب الألم الذي ينطفى بلهيب المعاناة وكلاهما لهيب حارق
ينبأنا بوجع لن يفارق !ليقابله في هذيّة القيصر هذا البيت:
هذا المُرَتَّقُ ملحُ الدمع ضمَّدَهُ
وروَّفَتْهُ مواويلٌ تحوكُ رِدَا
ريع يكتنف جوّ الوصف وخوف وترهيب فالمصاب جلل والقلب هو هذا المضنى وتتكسّر مرآة" هذا"لتشمل في دلالاتها القلب ،الشّاعر ،القريحة ،الفكر، المجتمع "والأنا" العالمية ف"هذا"هو كل إنسان يائس مكبوت مكلوم غارق في ظلمة المعاناة وتحت طائل العادات والحالات الإنسانيّة المعتمة والظروف الوجوديّة التي تخنق براعم الرّغبة في حياة أفضل
فالقلب نضج ما عادت تنطلي عليه خدع التّجربة:
ما روَّضَتْهُ مآلاتٌ تنُزُّ أسىً
ولا سلاهُ دخانٌ فتَّتَ الكَبِدَا
وهذا الفكر غط في سبات التّجمّد
يغفو وفكرتُهُ الحمقاء توقظُهُ
ويستفيقُ ولكنْ نبضهُ رقَدَا
وهذا الكيان الإنساني ملً وعودات الأمل ورتق حبال الكذب
هذا المُلَغَّمُ من عشرين يذرعُها
ظامٍ ويصدرُ لو وشْلًا بها ورَدَا
وهذا المجتمع يمتطي أكتاف الجهل والرّجعية ويهدر نحو الهاوية المحتومة.
هذا الذي لو حباهُ الليلُ حالكةً
لَأسْرَجَ الواهنَ الموجوعَ فاتَّقَدَا
وهذا الوجود تعوّد الظلمة كخفّاش يؤلمه رذاذ النّور لو خرج
فلو كان النور علاجا لأفحمه الظّرف البائس.
هذا الذي أفحَمَ الترياقَ نازفُهُ
وناكفَ العاصفاتِ الهُوجَ فاخْتَضَدَا
ويعود لقلبه شاعرنا ويشكو ثقل الإحساس والشجن المكبوت الذّي لا حدود له :
بهِ من الشَجَنِ المَكبوتِ خارطةٌ
حدودُها بابُهُ المخلوعُ لو وُصِدَا
نعم هو كحال القشرة اليابسة
لا يصدّها عن السّقوط شيء:
حالُ اللِحاءِ وعاثَتْ فيه مقتَلَةٌ
ماذا سَيَدرَءُ جِلْدٌ فارَقَ الجَلَدَا
يصر شاعرنا على التّصعيد أو تصعيد التّصعيد ليؤكّد نظرته التّشاؤميّة في ضياع الحلم ولا يبخل علينا في ضوعة القلم وما أعذب الأدب المتأرجح ما بين قسوة العلم وعذوبة القلم !
فيقول:
مامن سبيلٍ وهذا التِيْهُ ليسَ بهِ
صدرٌ لرَأْسِكَ إمّا مالَ فاسْتَنَدَا
ما غيرُ خدِّكَ لو سالَتْ سيَحفُظُها
تلكَ الدموعُ إذا أُوّارُها احتَشَدَا
أوغَلْتَ في خوضِكَ المجهولِ ياوَجِلًا
رغمَ ارتِعادِ يقينٌ فيه ماارتَعَدَا
وييصعد درجة في التشاؤم
تلك النهاياتُ ما وافَتْكَ جيِّدَها
قبضًا من الريح هذا الكفُّ لو حصَدَا
فاقْفلْ لخطِّ شروعٍ ما شرَعْتَ بهِ
إلّا وصبرُ بناتِ الدهرِ قد نفَدَا
وما بين "ما من سبيل "
حتّى "أقفل!"
تعيش حياة الموت ويزدهر نبض التّشاؤم ويكون الرّد عن كل جهد لاسترجاع ما فقد من فردوس في صدّ!
فالرّأس لن يجد مخدّته والخدّ وطن دمعته المحتكَر واليقين هو يقين في مجهول لن ينال ولن يُعرف والنّهايات كمن قبض في كفه ريحا!
.شاعرنا متهكّم ساخر حتى الإيلام لكنّه فيلسوف ويحمل مسؤلوليّة الكلام وفعل الكلام فينتقل بليونة إلى أسلوب التّوضيح وتبرير رؤيته للأمور ويعترف بأن في صدره "سؤال" والسّؤال هو ضمير الشّاعر وموقفه ثم بخفّة يرجع لانزياح الخيبة فيقول أنه حتي هذا السّؤال لا زال جنينا في أولى خطواته وقد يستزف صقله أبدا!
أنا وسينُ سؤالي كُنْهُ غائِرَةٍ
وخطوةُ الألفِ قد تستَنْزِفُ الأَمَدَا
حاولتَها فتماهى الخوفُ في خَلَدِي
خوفٌ يشلُّ ضميراً ما يشلُّ يَدَا
فهو حاول بصفته صوت نفسه وصوت مجتمعه أن يطرح حلولا للمآزق ويخرج من أزمته لكنه فشل!
وانكسر:
الآن بعدَ انكسارِ الضوءِ مُنكَفِئٌ
روحاً وقلباً وتهوى السيرَ مُنْفَرِدَا
برأيي فأنّ كلمة انكسار هنا تحتمل أيضا الدًلالة للفشل وليس فقط لانكسار الضؤ أصلا ما انكسار الضؤ الا لاصطدامه بالوعاء الصلب فينكسر تحت قوّته ويُسلب صفة التّحليق بحرّيّة في فسحة المدى
وكأنّه يقول أنً نقش القصيد لجمهور غاب وعيه وعلمه يحتّم موته ساعة ولادته !
ويتابع شاعرنا في وصف تبعات الانكسار وأسبابه:
فالعزم واهن
الآن يخذلُ كالمعتادِ غايتَهُ
عزمٌ تراخى ومن يأْسٍ بهِ قعَدَا
والعيون مذنبة بفقدانها إرادتها والرّمز والإشارة لفقدان البشر النّظرة السّليمة والتّحليل الصائب للأمور،
لهذا فشاعرنا سوف لن يرحمهما.
لا لن أُرَبِّتَ كتْفًا خانَ ساعدَهُ
ذنبُ العيونِ إذا دمعٌ بها جمَدَا
وأكثر فهو يشبّه المجتمع بشمعة قبلت في جوفها فتيلا
كما يقبل الناس بينهم المفسدين والظّلاميّين .حقّا فكم من شعوب نصّبت طغاة عبثوا ثرواتها وأفرادها وأوردوها سبل المهالم والدّمار!
ذنب الشموعِ ومن جهلٍ بها احتَضَنَتْ
ذاكَ الفتيلَ فذابَتْ كلَّما اتَّقَدَا
و يعود بنا شاعرنا الفذّ ألى المحسوس والأثيريّات فيصف الحياة بالسّراب المتلاشي في سراب
هي رصفة الزّفرة في رسمة الدّخان المتطاير أو حتى الحلم المتسامي إلى العدم ما برع فيه شاعرنا وأبدع حتى أثمل
أنظر كيف جاور سين السّراب وسين السّدى ليشير إلى تقاربهما وكيف تطبق الأسنان على بعضها حين لفظها كما يطبقها الفيلسوف حين يخيب رجاءه في معرفة الجواب!
خلفَ السرابِ تلاشى نسْغُها ظمَأً
وأقفَلَتْ من سُدىً كي تنتهي لِسُدَى
رصفة حروف ينهيها بلهفة خيًبتها الظّروف وأذبلتها وغيّبتها القصيدة في قسوة الإجابة فالحلم قد وئد قبل الإغماضة وقد يكون البلوغ هنا هو سن البلوغ الذي ما وصله حلم وضاع جيل في متاهات انعدام السّعادة!
لهفي عليه توارى خلفَ إصبعِهِ
حُلمٌ وقبلَ بلوغِ الحِلمِ قد وُئِدَا
.........................لقد اخترق شاعرنا جدار الرّتابة والاجترار وغاص في معاني التّشاؤم فكأن ما صار في استمرار وصدق وصفا وشرحا وقد يحتار القارئ ما بين قابل لهذا المسار في روحه المتّقدة على جمر العذاب وما بين عاب رقيق وطلب لنبرة تشافه التّشاؤليّة لو بات التّفاؤل ضربا من السّخف والجنون في هذا الحطام!.

نافلة مرزوق العامر

ليست هناك تعليقات