عندلة السّرد والرّجوع إلى الذّات...بقلم نافلة مرزوق العامر
عندلة السّردوالرّجوع إلى الذّات
في تجلّيات وأغراض البحث الرّومانسي
(THE ROMANTIC QUEST)
برؤيتي وقلمي
في النّصّ الصّغير الكبير
خاصّة البروفيسور أماريتوس لطفي منصور:
“خاطِرَةٌ:
إلى مولَّهَةٍ مجهولة:
ايتها السعادةُ الأبديّة
كنتُ قبلَ أنْ ألقاكِ هائمًا في ضلالاتِ الهُدَى
فلمّا ظهرتِ فجأةً في طريقي
أنزلتِ السكينَةَ على قلبيَ الْخافِقِ فانتَشَى
وَصْبَحَ لَيْلِي نَهارًا، وَنَهارِي جَنَّةً، وَأَرَقي سَكِينَةً.
ووهبتِ نبضاتِ قلبي موسيقى الأبديّة، فَأَطْرَبَتْنِي بَعْدَ جَفافِ الْعَواطِفِ.
المحبّةُ أيتُها الغاليةُ لا يستطيعُ الزمنُ أن ينالَ حُرمتَها بِنَوائِبِهْ
أو يَمَسَّ عَفافَها بأيِ أذَى وَإنْ طالَ وَطالَ
سوى أنّه يُعَمِّقُ مجارِيَها ويُوَثِّقُ صِلاتِها وَعُراها قُوَّةً كُلَّما هاجَ الشَّوْقُ، وَغَلى الْحَنِينُ
الْعِشْقُ أَيُّها الْمَلاكُ رْوحُ اللَّهِ تَدورُ حَوْلَ نَفْسِها، كما يََدورُ الشّاعِرُ حَوْلَ دُوارِهِ
يَرْسُخُ بِالنَّفْسِ كَرُسُوخِ الرَّواسِي في الْأَرْضِ
وَهُوَ سَمِيرُ الْعاشِقُ في قَبْرِهِ.
الْغِيابُ لا يُفْنِي الرُّوحَ بَل يُؤَجِّجُها كالنّارِ في الْهَشيمِ.
كَثِيرونَ مِنَ الْعُشّاقِ صَنَعَ مِنْهُمُ الْبُعْدُ شُعَراءَ
فَهٍُوَ حَنينٌ دائِبٌ إلَى النِّصْفِ الآخَرِ لا يَكَلُّ وَلا يَمَلُّ كَما قالَ أَفْلاطُون.
وَذاكَ النِّصْفُ شَجَرَةْ، وَزَهْرُها عَبَقُ الْمُهَجِ، وَرَحيقُهُ أُكْسيرُ الْحَياةِ، واللٍّقاءُ الثَّمَرْ
فَالْغِيابُ مِفْتَاحُ الْقْفُولْ
هَذِهِ دَوْرَةُ الْوْجودْ، كَما يَسيرُ جَفافُ الْماءِ في يُبْسِ الْعودْ
———-
الدُّوارُ هُوَ حَجَرٌ كُرَوِيّْ بحجْمِ كُرَةِ الْقَدَمِ، كانَ يُؤْخَذُ مِنْ جِبالِ مَكَّةَ، فَيَضَعَهُ الْمُسافِرونَ في طَريقِهم، ويدورونَ حَوْلَهُ تَبَرُّكًا، كما يطوفُ الْحَجيجُ حَوْلَ الْحَجَرِ الأسْوَدِ، وقدْ مَرَّ ذِكْرُهْ في مُعَلَّقَةِ أمْ ِئِ القيسِ.”
تقدمة توضيحيّة:
الخاطرة هنا رومانسيّة بامتياز كما سنرى بالدّليل والبرهان،
قال كوليريدج الشّاعر والفيلسوف الرّومانسي بتعريفه الأدبي للرّومانسيّة كجانر يلجأ إلى الطّبيعة والخيال لاستكشاف المجهول والعجيب موظّفا العقل المنسجم مع عناصر الطّبيعة لبثّ زفرات الرّوح على صفحات البوح:
:" No man was ever yet a great poet,without at the same time being a profound philosopher" .
ترجمةً بتصرّف:
حتّى الآن،لا يكون أيّ إنسان شاعرا كبيرا ،٠دون أن يكون في ذات الوقت فيلسوفا عميقا.
ولأنّ الموسيقا من الشّعر وله،ولأنّ باحث المخطوطات المجرّد من ملكة اللّغة والحسّ المرهف والشّاعرية الغزيرة لا يقدر على الضّبط والتّحقيق في الأشعار ولن ينجح في مهمّته ولن يصحّ ذلك له،ولأنّني قارئة نهمة لمن أقرأه الآن وثبت لي في ابداعاته النّثريّة والشّعريّة كما أنزلته في كتابي عن سيرة حياته وأعماله"مارد الضّاد"،فأنا أسحب تعريف شاعر عليه، وعليه فهو كما قال كوليريدج أعلاه، أيضا فيلسوفا متعمّقا.فكما سيرد من تحليلي لخاطرته المرهفة ،فأنّ نصّه يحمل معظم ملامح وأغراض الفكر والأدب الرّومانسي،فالموضوع هو البحث عن النّفس ومن بحث عن نفسه فقد بحث عن حقيقته والبحث عن الحقيقة هو الفلسفة بلحمها وشحمها.والملمح الثّاني للرّومانسيّة في هذا النّص هو كونه تعبيرا شاعريّا عن تجربة شخصيّة أتت في مناجاة خياليّة عذبة مع الملهِمة The muse ،التي هي أداة الكاتب في البحث عن نفسه،تلك النّفس التي بإماطة لثام تدريجيّة كانت في النّص، مجهولة مولّهة فسعادة أبدية ،فمحبة فعشق، فغياب صنو حضور فحنين دائب، فاكتمال وجود بلا وصول ،ولولا كان وصولا لانقطعت دورة الوجود.باختصار شديد فأن كاتبنا الفذّ بحروف معندلة جاء بالبحث الرّومانسي على أجنحة حلم ترفرف مغردة ومحتفية بوجود يستمرّ ببحث لا يتنهي عن السّعادة تلك السعادة التي هي متعة البحث نفسه لا غير،وهل أجمل من دورة عقليّة في البحث عن الذّات التي هي هي البداية والنّهاية،إذا فنقطة انطلاقنا وارتكازنا تحيليليّا ستكون على متن الفكر الرّومانسي تحديدا بعناصرها: الملهمة ،الخيال، الطبيعة ،ارتياد بؤر المجهول والبحث الفكري عن معنى الحياة.
إلى الخاطرة:"إلى مولّهة مجهولة".
تكتيك إماطة اللّثام عن معنى الكلام وتبديد الغمام عن مواطن جمال:
بدءا ذي بدء ،لا بدّ من الإشارة إلى أن مبدعنا يكثر من كتابة الخواطر ،ففكره النّشط لا يهدأ وما أسرع الفكرة إلى الورقة لو كانت جزلة معبّرة ولمّا كان صاحبها سيّد الكلمة البليغة ومالك فيافي اللّغة ومروّض حروفها البارع.
كتب أستاذنا معنونا خاطرته :إلى مولّهة مجنونة"
مناجاة في الخيال مع ملهمته،لكنّها "مجهولة"
إذا فهو في بحث في المجهول وعنه.
تؤمن الرّومانسيّة بقدرة البشر على اكتشاف الحقائق وحقيقتها عن طريق اعمال الفكر والرّوح في الغوص بالمجهول.
ويا للغرابة،يستهلّ أستاذنا خاطرته بتعريف عن المخاطبة المجهولة فينعتها ب"السّعادة الأبديّة"،إذا فنحن أمام لثام يماط عمّا نجهله،حيث نرى أسلوبا تقريريّا يقوم تدريجيّا برسم دائرة استكشافيّة تعريفيّه للقارئ عن طبيعة هذه المجهولة المولّهة.ولا يفوتنا الإنتباه إلى تقابل المستوى الفكري الباسق باللّفظ الماسيّ الفاخر مؤتلفان يؤلّفان أرقى نصّ أدبي يجمع فيه شتّى جوانب الإبداع الهامّة والنّاجحة.كيف لا وهو يناجي المجرّد برسم لفظي مرسوم كلوحة من عسجد!.
قفولا إلى الخطاب الخيالي في خيلاء إنشاء العلياء .نرافق أستاذنا
في مناجاته العسليّة،يستطرد أستاذنا حديثه مع ملهمته التي هي السّعادة التي كانت غائبة عنه فعاش في"ضلالات الهدى" فعندما التقاها:"أنزلتِ السّكينة على قلبي الخافق.."فأضاءت نهاراته وهرب أرقه،وارتوت أحاسيسه، وطربت نبضاته.هي معالم الحياة والحيوية التي سرت في شرايينه.تحضرني هنا قصيدة الشّاعرW.wordsworth ,"قلبي يقفز"
"My Heart Leaps Up"
فرقصة قلب مبدعنا هنا بلقاء ملهمته متجسّدة بالسّعادة الأبديّة،وغلوّه بوصف فعلها بكيانه تذكّرنا برؤية الطّفل لقوس قزح في قصيدة ووردزووث،حيث تظهر الطفولة والرّوح الطّفلة متجلّية بأهميّتها في الاحتفاظ بمشاعر الرّهبة والتّعجب من العالم الخارجي والظواهر الطّبيعيّة، بل أكثر فقد التقى أستاذنا بوصف دورة البحث عن الجمال مع الإنجليزي المحترم ،حيث الأوّل تحتلّه وتكاد تصرعه فرحا لقيا السّعادة( ولاحقا في الخاطرة كلّ مرادفاتها)فتملأ قلبه حيّويّة وطاقة أملا ووعدا بموعد جديد كما يملؤها قوس القزح في قلب الطّفل:
"قلبي يقفز عندما
أرى قوس قزح في السّماء".
ونرجع لخاطرتنا لنرافق أسماء أو تعريفات أو القاب الملهمة مصدر الوجود الرّوحيّ للكاتب فنرى من السّطر الأوّل حتّى الأخير اللّثام السّردي يماط ببلاغة متناهية ومنطق مدهش، فهي المحبّة العفيفة المعصومة عن الخطل،يزيدها الزّمن قوّة ويؤجّج فيها الحنين والشّوق،بل وتصبح عشقا ووجدا كروح إله تدور حول نفسها.ونعود للدّوران ،فأيضا عند ووردزوورث تلقى رهبة اكتشاف الوجود في قلب الطّفل زخما أبديّا بقصد وعن سبق تصميم لتأزيله،فهو يقول:"حدث لما بدأت حياتي
والآن وأنا رجل
وعندما سأهرم
أو فدعني أموت".
نعم،إنها الرّغبة العارمة في الإحتفاظ بالحلم تذوّقا وإحساسا،يا لجمال اكتمال الجمال في احتضان سحره مدى الحياة والحيوات".هذا ما حدّثنا به أستاذنا في اجتماع الأضداد فقال"كثير من الشّعراء صنع البعد منهم شعراء"،هو يقصد أنّ البحث عن الشّيء يأتي من عدمه، فمن الغياب حضور آت ومن البعد قرب زاحف،ومن الهجر وصال ومن النّقص اكتمال ،وإلّا فلا حياة ولا لذة في بقاء ،آنّه الجمال الثّقافي ومتعة البحث الدّائب عن المعاني(Intellectul Beauty), وكم هو صادق أستاذنا فلا طعم لأنجاز دون عرق وشقاء في اكتسابه،هي هي "الدّروب الصّعبة"ما تدمي القلب فيتلوّن ويقنى ليقتني حيويّه وجدارة وجوده.
خاطرة أستاذنا صغيرة بحجمها كبيرة بمعانيها تكاد تحتضن اللّغة الحياة و قد تتعدى الحياة ،وتكسر جدران إدراك معاني الوجود،تختلط فيها المفاهيم الكبيرة والعناوين الشّاملة لمعنى الجمال والخير،فملهمته منه وله ،هي مصدر إلهامه ودالّته على عالمه الدّاخلي والخارجيّ،خاطرة قوس قزحيّة لا تخلو من المعراج المعرفيٍّ المنصوريّ(أنظر كتاب مارد الضّاد) فيها تتجلّى أبعاد النّص الفلسفيّة الأدبيّة البلاغيّة الفكريّة والدّينيّة في ذروتها.
بل ذروة الذّروة فملهمته هنا هي الملكة الفنّيّة التي تشعل قريحته وموهبته الإبداعيّة،وأمّا لهيبها فمؤبّد على سطور الخلود الأبديّة في بعد زمنيّ رابع،لطالما طالب به وراود حلم الرّومانسيّين في وحدة فكريّة حسّيّة مع وجود يستحق الوجود،فهل أروع من دورة حياتيّة تبتدئ بدهشة المحبّة وتختم بدهشة الإكتشاف،اكتشاف السّر المجهول الذي هو أنّ الحياة فنّ تصنعه ذواتنا في دائرة خالدة تضيئها روح تعشق الخير المحبّة والجمال
تزرعهم فيرجع صداهم يصرخ قائلا بأنّ وميض النصف اكتمال،"والغياب مفتاح القفول"،والحلم قاهر الملل.كيف لا وأستاذنا يقول:"العشق سمير العاشق في قبره" والعشق والشّغف المؤزّل في روح الشّاعر الواعية يسامره في قبره بمعنى أنّ حياة الشّاعر دون عشق هي موت،وآخر فالعشق في كتاباته يبقيه خالدا بعد مماته.نعم من الموت حياة ومن الجفاف رواء قوله"كما يجري الماء في يبس العود" مدهش،بل فيه رواء لفظي بحروف تليّن حدّة ةلعكذ والجفاف من جهة وكتفسير لبدء الحياة بالماء الذي منه كلّ شيء ومن ماء الحلم إيناع ليبس وجمود العقول.
لقد شقّ يراع أستاذنا عباب بحر الإبداع فوصل أعماق الفكر وبلغ محاره ،ومخرت ألفاظه في بحر الفساحة والبلاغة فضاهت نجوم الكبار وطالت قمم التّميّز لتخلد على رفوف المكتبات،وتعبق بأعذب الرّوائح الأدبيّة.ما أصدق وأعدل قوس قزح كهذا إبداع
فألوانه تأخذ أنفاسنا لتهبنا نفسا فكريّا يأخدنا نحو اللّاغياب.
التعليقات على الموضوع